تذكر دائما من عجائب الدنيا السبع، الأهرام، برج بيزا، منارة الإسكندرية، البساتين المعلقة، المسرح الروماني وتاج محل، وإذا اختلف المرء في هذه العجائب فهو لن يختلف في أن تاج محل ضمنها دائما، والأجمل أن تاج محل هو الباقي ضمن هذه العجائب بشكل كامل. وهو آخر ماشيد في هذه العجائب، وأجملها أيضا أن بناءه كان وليد قصة حب بين الأميرة ارجمند والأمير كورام. وقد أصبح اسمها فيما بعد أرجمند: ممتاز وأصبح كورام، شاه جاهان (ملك الدنيا) بعد أن كان خُرّم (=المُفرح)، ونعود للبداية:
في 5 يناير 1592 ولد الأمير المغولي المسلم سليم ابن الإمبراطور محمد جلال الدين أكبر 1556-1605 وليد اسماه جده هذا: كورام أو خرم وكان ميلاد الصغير مدعاة لفرح الجد الذي عاش الوليد معه دون أبيه. وقد مات السلطان أكبر في 1605، وعمر كورام 13 سنة فقط، وتولى الملك والده محمد سليم أو نور الدين جهانجير (صاحب الدنيا) 1605-1627. وعندما توفي جهانجير وقع صراع على العرش أو الملك بين أولاده خصوصا بين شهريار وخرم وانتصر فريق خرم بمساعدة صهره والد ارجمند المسمى اصف خان، وتولى خُرم الملك رسميا تحت اسم محمد شهاب الدين في 1628.
اللقاء والزواج:
التقى الأمير خورم مع ارجمند في إحدى بزارات الأسواق، التي تنظم داخل القصر الملكي في سنة 1612، وكانت ارجمند “تبيع” في أحد الدكاكين مرايا وغيرها، وجاء الأمير ليسأل عن ثمن إحدى المرايا فطلبت ارجمند ضاحكة مبلغ عشرة آلاف روبية، بينما السومة الحقيقية للمرأة لا تتجاوز روبية أو روبيتين، وأدى الأمير المفتون المبلغ المطلوب، وطلب من والده أن يزوجه ارجمند (الجديرة) وكان عمره 20 سنة، وارجمند أيضا كانت في نفس السن 20 ربيعا، وكان العرس الذي أقامه السلطان جهانجير أحد أضخم الأعراس التي أقيمت في تاريخ الأعراس الملكية الهندية وذلك في عام 1612، ولم تكن هي زوجته الأولى، فقد كانت له زوجة أنجبت له ولدا واحدا، إلا أن التاريخ تجاهل هذه الزوجة وابنها كذلك. فالتاريخ في هذه المرحلة لم يتكلم سوى عن ارجمند وأبنائها فقط، وشاه جاهان، بعكس والده “جهانجير” لم يترك مذكرات كما أن التاريخ لم يتكلم كثيرا عن شخصيته باستثناء الأسبوع الأول لوفاة زوجته “ممتاز” وحريق ابنته “جهانارا” فيما بعد فقد تحدث المؤرخون عن الحزن العميق بعد وفاة الزوجة المحبوبة وبياض شعر رأس الإمبراطور وكآبته الطويلة، واعتكافه الطويل بعد احتراق الابنة التي رفضت الزواج وتكلفت برعاية إخوتها، وذلك بعد وفاة والدتها وكان عمرها 16 سنة، وهكذا التاريخ فالأميرة زفت في عرس أسطوري وعمرها 20 سنة، والابنة “ترهبت” بعد وفاة الوالدة وعمرها 16 سنة، وكانت هذه الأميرة هي التي رافقت والدها “شاه جاهان” في سجنه طوال 8 سنوات حتى وفاته وهو في محبسه بعد عزله عن العرش من طرف ابنه “اورانجزيب” (1657-1707) أحد أهم السلاطين المسلمين واسمه (محمد محيي الدين) في تاريخ الهند.
شـــاه جـــاهـــان:
يعتبر شاه جاهان من أهم أباطرة المغول المسلمين الذين حكموا الهند. وكانت المرحلة التي تولى فيها السلطة إحدى المراحل القليلة ذات السلام النسبي داخل الإمبراطورية المترامية الأطراف، الشيء الذي سمح له ببناء أثرين خالدين، تاج محل في أغرا، والمسجد الجامع في دلهي، بل إنه هو الذي يرجع له الفضل في بناء دلهي الحالية والتي أصبحت نيودلهي بعد استعمار الإنجليز لها في 1857، إذ أن دلهي الأصلية تبعد عن دلهي الحالية بحوالي 15 كلم، وهي مجرد خرائب حاليا، وكان شاه جاهان عسكريا، وزوجته الثانية ارجمند التي أمر بتشييد تاج محل لأجلها هي نجلة آصيف خان شقيق نور جاهان، وكانا قد قدما إلى الهند من فارس مع والديهما، وتزوجت نور جيهان الأمير الذي أصبح السلطان جهنكير والد شاه جاهان، بينما تزوج الأمير (السلطان فيما بعد) شاه جاهان ارجمند ابنة اصيف خان. وعندما توفي جهانكير وقام صراع بين الجناحين، جناح كورام وجناح شهريار، وعلى رأس الجناحين أرملة الإمبراطور جهانكير نور جيهان التي كان شهريار زوج ابنتها، وبين شقيقها (شقيق نور جيهان) اصيف خان (أو الأمير أبو الحسن غيات الدين). وكان من كبار رجالات الدولة. وقد توفي سنة 1641 وهو رئيس لوزراء صهره شاه جاهان، ودفن في مدينة لاهور في باكستان حاليا، إلا أن جناح اصيف خان هو الذي انتصر واعتقلت نور جيهان وصهرها شهريار شقيق شاه جاهان، وتولى هذا الأخير حكم الإمبراطورية التي كانت قد بدأت بوادر فنائها مع تواجد البرتغال والانجليز في بعض مناطقها، ورغم هذه المرحلة الصعبة فإن شاه جاهان كان أحد البنائين الكبار في تاريخ الهند الإسلامي.
ولم يكن تاج محل المعمار الوحيد الذي شيد شاه جاهان، وإنما أهمية هذا البناء تأتي لكونه أجملها على الإطلاق والهدف من بنائه أن يكون ضريحا لزوجته التي توفيت بسبب مرض لها، وفي قصة أخرى بسبب آلام الولادة بعد ولادتها الابن 14، إلا أن ارجمند كما يؤكد المؤرخون الهنود خلفت 7 أبناء فقط 3 بنات و4 أولاد منهم سلطان الهند فيما بعد “اورانجزيب” أو محي الدين محمد، وكان شديد التدين والزهد.
أما عن البناءات التي أمر ببنائها شاه جاهان ، فهناك المسجد الجامع أحد أكبر المساجد في العالم واستغرق بناءه 6 سنوات، ويوجد بمدينة دلهي وتقام فيه أيضا الصلوات الخمس إلى الآن ويحج إليه كل من يزور دلهي، وقام أيضا بإكمال بناء القلعة الحمراء وهي من أجمل القلاع وكانت أصلا قصرا لإقامة السلطان والحاشية وهي الآن مكان للحفلات الرسمية حيث تقام فيها حفلات عيد الاستقلال وعيد الجمهورية، أما تاج محل، فقد كان آخر بناء كبير أمر بتشييده شاه جاهان، فبعد وفاة ارجمند في 1630، وكانت وفاتها أثناء حملة ملكية في جنوب الهند وتم دفنها في البداية بمدينة “زين اباد” أولا، وبعد مرور ستة أشهر نقل جثمانها إلى مدينة “اكبر باد” وعلى قبرها تم تشييد تاج محل، والذي استغرق بناءه 22 عاما، واشتغل عليه 20 ألف عامل مع مهندسين من مختلف الأنحاء خصوصا من تركيا وإيران وعلى رأسهم الأستاذ عيسى. والأستاذ عيسى هذا هو الذي أشرف على البناء واختار العمال والفنيين المهرة الذين جاؤوا من إيران وتركيا وأيضا من الهند، والذين بقي أبناؤهم حتى الآن يرممون هذا الأثر الخالد. ولانعرف الكثير عن عيسى هذا سوى أنه مهندس مسلم كلفه الإمبراطور بالإشراف على تشييد هذه التحفة التي كلفت ملايين بحساب ذلك الزمن وبلايين بحساب هذا الزمن. والبناء في الزمن القديم لم يكن الهدف منه التشييد فقط في حد ذاته، أو أحد الأسباب الشخصية للإمبراطور أو الأمير، بل كان أيضا يهدف إلى التشغيل خصوصا في ظروف الكساد والجفاف، وكان البناء أحد أهم الأشغال الكبرى الاقتصادية كما هو معروف، وبالتالي كان يستقطب آلاف العمال المهرة وغير المهرة زيادة على المهندسين والفنيين، بالإضافة إلى الحياة الاجتماعية التي تقوم حول البناء من مساكن ومطاعم وصناعات صغيرة لتزويد البناء بتجهيزاته وعماله باحتياجاتهم. وبذلك يتحول البناء إلى مجمع حياة متكامل خصوصا إذا استغرق البناء مدة طويلة كما هو الحال في تاج محل الذي بالإضافة إلى الصناع المهرة والمنتجين الصغار والمطاعم الصغيرة والمدينة -اكبر اباد– التي بدأت تكبر بفضل الضريح الذي لا مثيل له، وكانت بعض الاحتياجات تأتي من الخارج خصوصا الرخام الذي كان يستورد جزئيا ويُروى أنه كان يجلب من ولاية راجستان المجاورة.
البناء والقبران:
تقع مدينة “اغرا” على بعد 170 كلم من نيودلهي العاصمة، وهي التي كانت تسمى “اكبر اباد” لأن فيها يقع ضريح السلطان اكبر، والبعض يسميها مدينة تاج محل، والمدينة المشهورة بالصناعات التقليدية وبصناعة الطائرات الورقية.
وما إن تدخل إلى تاج محل الواقع على نهر “جامونا” حتى تفاجأ بالبوابة الخارجية المكسوة بالمرمر، وقد كتبت عليها سورة الفجر كاملة، ويتصاعد بصرك مع الأحرف العربية وتجد أنها في كل سطر كتبت أكبر من السطر الذي تحته حتى يقرأ الداخل السورة القرآنية كاملة، وفي الداخل مسجد صغير للصلاة نقش كله بآيات القرآن الكريم، وهناك قبة ضخمة أعلى المبنى وأربع صوامع مستوية في جوانبه، بالإضافة إلى الجدران المكسوة بنقوش بديعة. ويقع الضريح كله وسط حديقة مترامية الأطراف إضافة إلى نافورات تزين المكان وكانت في الزمن القديم تفور بالماء المعطر.
أما المقبرة فتقع في الداخل، وكل شيء في الضريح مبني على شكل متوازي ومتساوي لدرجة عالية التقنية إلا قبري شاه جاهان و ارجمند، فشاهد قبر شاه جاهان أعلى قليلا من شاهد قبر ارجمند أو ممتاز، وعلى قبرهما كتبت أسماء الله الحسنى “وكل نفس ذائقة الموت” الآية، وتاريخ وفاة كل منهما حسب التقويم الهجري، والقبران الحقيقيان يوجدان في جزء سري من الضريح، أما القبران المتواجدان علنا فهما رمزيان فقط نظرا لخوف السلاطين من زوال الدول ونبش القبور، وهي عادة كانت متفشية بين الأسر المتداولة للحكم.
خــاتــمـــة:
في سنة 1657، أصيب شاه جاهان بمرض أعجزه عن السلطة، وتولى ابنه “دارا” إدارة الشؤون، وكان لشاه جاهان أربع أولاد، دارا ومراد وشجاع واورانجزيب وهم أبناء ارجمند. وبعد الصراع بين الإخوة الأربع استطاع اورانجزيب أو محي الدين محمد تولي السلطة وعزل إخوته، وقام بوضع شاه جاهان في القلعة المواجهة لتاج محل، وبقي شاه جاهان في محبسه في القلعة وليس له إلا نافذة يطل منها على التاج حتى توفاه الأجل. وكانت ابنته “جاهانارا” كما روي بعد أن عجز عن الوقوف لمشاهدة الضريح من النافذة قد وضعت له –ولاندري هل هي نفس المرآة التي اشتري في أول لقاء له مع ارجمند– مرآة صغيرة بقرب فراش مرض الموت تعكس له صورة التاج حتى توفي في عام 1666، ودفن إلى جوار “ارجمند بانو” في نفس الضريح الذي قيل فيه “أن العالم يجب أن ينقسم إلى فريقين الذين شاهدوا تاج محل والذين لم يشاهدوه“.
*باحث