ذ/ عزيز بومسهولي يكتب “شذراته الفلسفية” : لا شيء يدوم للأبد “Nothing lasts forever”
1 ـ
الاسم الحقيقي للفلسفة محبة الحكمة، غير أن للحكمة أوجه، إن لم نقل وجوها، أي أنها محبة التفلسف بإيجاز، إذ إننا بقدر ما نمارس التفلسف بكيفية خاصة، فإننا نمارس المحبة كطريق رسمناه بذواتنا لبلوغ الحكمة. والحال أن الحكمة التي نرغب فيها عشقا أو محبة، ليست سوى الحياة عينها مرغوبا فيها باعتبارها هبة الوجود. ومعناه أن هبة الوجود ليست شيئا آخر غير اقتدارنا على فهم حقيقة اللامتناهي الذي ننتمي إليه لا بوصفه مطلقا محضا،أو شيئا في ذاته يستحيل إدراكه، ولكن بوصفه إمكانية لامتناهية للرغبة في الحياة. إذن ففي كل تفلسف حياة، أو محبة للحكمة لا للوجود عينه، بما أن الحكمة هي اقتدار على بلوغ كمال الوجود. لا أعني بكمال الوجود عين الوجود، بل اكتمال قدرة الموجود على إرجاع حركة اللامتناهي إلى ذات الموجود.
2 ـ
لا أعني بالتراضي، بذل الرضا بالمقابل، ولكن أعني به التقاء رغبتين في الرضا، بحيث ما يسعاه كل واحد منهما ليس سوى بلوغ منتهى الغبطة من حيث هو كمال الرضا. إن العلاقة مع الغير هي منشأ أساس التراضي. ومهما كانت هذه العلاقة مختلة، صار الرضا إرضاء بما هو سعي خائب، وجهد بلا غاية، وفعل بلا قيمة، وحياة بلا معنى.
3 ـ
ثمة تراض، وثمة إرضاء، والحال أن التراضي اقتسام للغبطة على حد سواء، أما الإرضاء فهو سعي خائب دوما، كونه جهدا بلا غاية، ما دام أن الكائن المرغوب إرضاؤه لا يرضيه شيء سوى إتلاف الاقتدار على الغبطة. لهذا كانت الكائنات العاجزة عن التراضي أشد ميلا نحو الكدر والبؤس وتعاسة الضمير، إذ أن غايتها هي سلب قدرة الإنسان على العطاء، وإضعاف قوة الحياة فيه، حد العدم المحض.
4 ـ
إذا لم تكن قسمة الغبطة غير متساوية بين فردين متعايشين، فإنها تكون غبطة ناقصة، وإذا كانت على قدر من التساوي فهذا كمال الغبطة. أما إذا كان مقدار الغبطة لدى أحدهما أقوى من مقدار غبطة الآخر، فهي متوازنة، وبالمقابل إذا كان مقدار الغبطة لدى أحدهما أقل من مقدار تعاسة الآخر، فهي غبطة مجهضة.
ومعناه أن تمام الغبطة إنما يحصل بقدر تساوي مقدار الغبطة بين ذاتين تتقاسمان الوجود وتعيشان على نمط قوة الغبطة المتساوية بينهما، وهذا لا يحصل إلا نادرا. غير أنه بالمقابل من هذا التساوي، ثمة توازن موجب، وثمة خلل سلبي، في الحالة الأولى نجد أن مقدار قوة الغبطة لدى شخص ما أقوى من مقداره لدى شخص آخر يتقاسم معه غبطة العيش، بحيث يعوض المقدار الزائد لدى الشخص الأول ما هو ناقص لدى الشخص الآخر، وهذه هي العلاقة المتوازنة؛ وفي الحالة الثانية يكون مقدار النكد لدى شخص ما يفوق هولا مقدار الغبطة لدى شخص يتقاسم معه العيش، وهذه هي العلاقة المختلة. والحال أن صدف الوجود الغريبة، هي من المسئولة عن هذا التفاوت بين الأفراد الذين يجدون أنفسهم في ارتباط مع آخرين، غير أن هذا الارتباط ليس أعدل قسمة للغبطة بين الكائنات، إذ ثمة من سيعيش تمام الغبطة، وثمة من سيعيش غبطة نسبية بحد التوازن، وثمة من سيعيش التعاسة ولا شيء غيرها، ما دام ان منسوب غبطته أضعف من اكتساح قوة التعاسة المنكشفة في الشخص القرين، والتي لا تعرف للغبطة سبيلا. والحاصل أن غبطة الحياة هي معطى قبلي مادامت منتسبة للوجود، إلا أنها مشروطة بالعلاقات الاجتماعية، وبنمطي رؤية الحياة، الإثباتي والارتكاسي، وبالتالي لن تتحقق غبطة في الوجود إلا بالوجود بالمعية، لكن في كل معية قد يكون هناك قيد وشرط ونسبة وتفاوت قد يجلب الغبطة، لتحصل السعادة، أو يتلفها، فلا يحصل سوى الشقاء والبؤس.
5 ـ
نحن لا نحيا إلا مرة واحدة، لكننا مع ذلك نعيش عدة مرات، بتعدد اللحظات التي نبتكر فيها نمط عيشنا. لهذا فإن كل لحظة معطاة، إما أن نعيشها كما لو أنها امتداد للحظة عينها وكأن اللحظة بما هي مجرد إحاطة بالوجود الحاصل، أو أن نعيشها كلحظة بوجود يحصل في ذواتنا. في الحالة الأولى نحن نعيش لمجرد العيش، وفي الحالة الثانية نحن نعيش اللحظة كمعطى حياة متجددة، كما لو كنا نولد من خلالها مرات وأخرى. والحاصل أن الوجود شيء واحد، لكن العيش ليس واحدا، أو هو كيفيات أخرى لمضاعفة العيش في الوجود.
6 ـ
لا مبرر لكل هذا التهويل من وباء لا بد من التعايش معه مهما كانت الظروف. أما التهويل فلا يمكن إلا أن يضعف المناعة الجماعية، والأخطر من ذلك أن تتعطل الحياة حد الإفلاس، وأن يصبح قوت الناس ومصالحهم في مهب هذا الإغلاق الذي طال أمده.
7 ـ
غبطة الاختلاف.
الاختلاف ليس مجرد حال من أحوال الوجود، بل هو أكثر من ذلك، كونه فسحة الكينونة، أو هو البون الذي يولد الغبطة بما هي أعدل قسمة بين البشر، كونهم متمايزين وليسوا قط متطابقين جسدا وفكرا، جسدا لأن كل جسد هو غير، فلا يوجد جسد متطابق، حتى بالنسبة لكل الأشياء التي تندرج تحت النوع نفسه، ولنأخذ كمثال صتفا واحدا من سيارة أنتجها نفس المنتج، أي هذه السيارة ب 308، فهذه السيارة حتى وإن كانت تتركب من الأجزاء نفسها، أو كانت لها درجة قوة الحركة نفسها، بل حتى ولو كانت من اللون عينه، فإنها تختلف عن أية سيارة أخرى بالمواصفات عينها، وذلك لأن سياق وظروف الاستعمال ستختلف بالضرورة، وبالتالي فإنها لن تعيش ألا كشيء مفرد أو مختلف اختلافا تاما عن نظائرها، لهذا يستحيل أي تطابق مزعوم بينها وبين غيرها، كما أنها من حيث العلة الكافية لن تكون إلا متمايزة بالنسبة لكل حدث يلحق بها، كما بالنسبة للزمن الذي قضته في الطواف. هذا من جهة أولى؛ ومن جهة أخرى فإن الفكر بما هو خاصية الإنسان وحده لا يمكن إلا أن يكون متمايزا بطبيعة كونه فكرا ينتسب إلى هذا الجوهر أو ذاك، أو إلى هذا النمط المخصوص بكينونة الأفراد، بوصفه المعطى الأول لغيطة الوجود، إذ أن الفكر لا ينفتح على الامتداد ألا بقدر ما يكون هذا الامتداد فضاء للاختلاف، ومهما كان الفضاء كذلك كانت غبطة الوجود أدنى أو أقرب من الكينونة. أما خلاف ذلك فلا يمكن أن يولد سوى تعاسة الوجود وكآبة الكائن، والعجز التام عن التعايش. والحال أننا إذا لم ندرك غبطة الاختلاف التي تجعل منا متمايزين من حيث الفضاء الذي نشغله، ومن حيث درجة القوة التي فينا، ومن حيث العطاء الذي نمنحه مما هو حاصل لدينا، فإننا لن ننعم قط بغبطة الوجود، سنكون فقط كمن أهدر الوجود كله في مهاوي العدم. ولا يعني العدم هنا شيئا آخر سوى انعدام قيمة الاختلاف، واتفلات غبطة أتلفناها بحرصنا على إضمار كل اختلاف.
8 ـ
لا شيء يدوم للأبد “Nothing lasts forever”
يمكن أن نتختزل هذه العبارة في قولنا : ” كل شيء ليس دائما أبدا” والمراد هنا ليس الشيء بما هو شيء، وإنما حال الشيء، أو الشيء بوصفه جوهرا فردا، سواء بالمعنى الأرسطي، أو بمعنى المونادة اللايبنتزي، أو بالأحرى بوصفه حالا أو نمط كينونة وليس جوهرا كما هو الشأن عند سبينوزا، ما دام أنه ليس هناك سوى جوهر واحد لاغير هو الوجود عينه، بوصفه علة ذاته وبوصفه هو وحده الدائم إلى الأبد.
ومن ثمة فلا تعني العبارة سوى أن أي شيء هو بمثابة جوهر فرد أو مونادة، أو حال فإنه لا يدوم، لأنه ليس جوهرا من قبيل الجوهر ذاته كعلة أولى، أو أنه جوهر يسري عليه حكم الوجود وفق قوانين محددة، بالرغم من أن له علته الكافية باعتبارها مفهوما ينطوي على كل الأحداث التي لحقت بحياته في هذا العالم الممكن الذي تخضع فيه كل الأشياء لقانون دائم يملي عدم الدوام على الأشياء برمتها، فلا يدوم إلا شيء واحد هو الدوام عينه. فهل الدوام شيء؟ بالطبع هو شيء لكنه ذلك الشيء اللامتعين والذي لا يقبل الإرجاع إلى أي حد بوصفه اللاتناهي إلى الأبد، أو هو بالأحرى اللامتناهي غير المشروط.
9 ـ
تعجبني هذه العبارة لأنها تعبر عن كمال الوجود.
أنا لا أحتاج أي شيء بقدر ما أحتاج إلى أن تكون ذاتي قادرة على الانسجام مع غبطة الوجود، بما هو عطاء مطلق. إذ أن حقيقة الكائن لا تكمن في مطلق الرغبة، ولكنها تكمن في مطلق الوجود المعطى للرغبة. ومعناه أن رغبة مطلقة لا يعادلها سوى أمل مفقود، أما غبطة الوجود فلا يعادلها، سوى رغبة تتناسب بغبطة الوجود لاغير. وذلكم هو اقتدار الرغبة وكمال الوجود.
10 ـ
كما يجري الإحساس في الكائن سريان الدم في عروقه، يجري الشعر والفن عموما في وجدانه، كما تجري الميتافيزيقا في عقله، لذلك لا يمكننا أن نعيش بدون دم في عروقنا، ولا بدون حس في كياننا، ولا بدون شعر أو فن في وجداننا، حتى ولو لم نكن شعراء أو فنانين بالفعل، ولا بدون ميتافيزيقا في عقولنا، حتى ولو لم نكن ميتافيزيقيين بالفعل. وذلك لأننا نحس بوعي أو بدون وعي ما دام الحس متأصلا فينا، ولأننا نشعر ونبدع حياتنا فنعبر عنها بالقدر الذي نجعل منها أفقا جماليا للعيش، ولأننا نفكر بالكينونة وفي الكينونة بما هي منبع وغاية في ذات الآن.
هذا لا يعني سوى كون الإحساس والفن والميتافيزيقا هي الشيء عينه، مع فارق الوظائف والغايات، فوظيفة الحس، تضعنا على علاقة مباشرة بالوجود، بصفتنا أشياء فيزيقية حية وحيوية، أما وظيفة الفن فهي تضعنا في علاقة مع الرغبة الجمالية التي نستشعر بها وجودنا في العالم، في حين فإن وظيفة الميتافيزيقا إنما تعيدنا إلى نقطة البداية، حيث الوجود كأصل، وحيث الكينونة كغاية، الوجود كأصل بما هو المنبع الدائم، والكينونة بما هي غاية في حد ذاتها بما هي تقدير لكل لحظة نستشعرها في تناهينا الخاص، إذ ليست مهمة الميتافيزيقا أن نتملك الوجود، وإنما أن نجعل من لحظة لتقييم الوجود قيمة لا تضاهى، بحيث لا يمكن تجريد أي كائن من القيمة، ما دام لا يمكن تجريده عن الكينونة، ولا فصله عن الوجود. إن الميتافيزيقا في نهاية المطاف ليست سوى تقدير الكائن وبالتالي فهي ليست مجرد أنطولوجيا، بل هي إيتيقا أولى كما عبر صديقنا الفيلسوف ليفناس ذات كلية ولا متناه.