عندما نقول بأنه إذا لم يحصل تحول على مستوى البنيات التشريعية والمسلكيات الأخلاقياتية والتأديبية في مجال الأمن ، بما يعنيه حصول بعض الانتقالات والقطائع على مستوى العقيدة الأمنية للنظام ؛ فإنه لا يمكن تصور أي انتقال ديمقراطي او تحول سياسي حتى ؛ فرغم تنصيص الدستور المغربي على مبدأ فصل السلطات، فإن عبارة ” التعاون فيما بينها ” تشوش معنويا و واقعيا على ما يفترض في الفصل هذا من شرط استقلال بعضها ( السلط ) عن بعض، وهو أمر قد يدون في الأدبيات ومدونات الأخلاقيات والسلوك المهنية المعنية بها مكونات هذه السلطات، من موظفين سامين وكل المكلفين بتدبير التشريع او إنفاذ القانون أوتطبيقه، سواء كانوا وزراء أو قضاة او أمنيين، لكن التنصيص غير كاف ما دامت صناعة القرارات السياسية والتشريعية والأمنية هي ثمرة وحصيلة تجادبات ومنافسات سياسية وغيرها ، تدار سياديا، باعتبارها تنتمي في آخر التحليل لمجال القضايا الوطنية المصيرية والحيوية الاستراتيجية ، تحت إشراف المجالس العليا وعلى رأسها مجلس الوزراء والسلطة القضائية والإفتاء الديني والحكامة الأمنية وقيادة أركان الجيش … ، وبغض النظر عن ريادة إمارة المؤمنين والتمثيلية القانونية للدولة، ناهيك عن دور مؤسسة الخطاب الملكي ، وعلى الخصوص التوجيهي خلال افتتاح الولاية والدورات التشريعية، فإن القوامة، وفق هذه التراتبية الدستورية ، تكون للأمن والاعتبارات السيادية ، التي يتقوى هاجسها خلال لحظات الصراع المفتوح أو المخاطر والتهديدات الخارجية ، أو الاحتقان والتوتر الداخلي أو الخارجي، ويتطاوس منطق الدولة وتوجس هيبتها ، ويحول أحيانا الشعور الوطني العام والمنطق الحاكم لأي سياسة أو تشريع إلى درجة اعتبار الحياة العامة وكأنها حربا مستمرة ، وذلك لارتباط مطلب الأمن والحاجة إليه بطبيعة النظام السياسي ، الذي يتوخى صياغة تجليات الأمن ومفهوم عقيدته الأمنية ودينامياتها على أساس الشرعية التاريخية والدينية وتمثلات حفظ النظام العام مقابل دمقرطة صناعة القرار ، والاستقرار السياسي والأمني مقابل التعايش والسلم الاجتماعي . وهو وضع راهن العهد الجديد على تجاوزه ، في افق القطع معه ، بمحاولة إقرار مفهوم جديد للسلطة ، والذي عرفت عملية إنجازه تعثرات سببها تداخل الصلاحيات وتماهي المسؤوليات . فهل تكفي دسترة مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة دون فصل حقيقي للسلطات وتفعيل مبدأ استقلال بعضها عن بعض ؟.
من هنا وجب التذكير بمخاطر تراخي السلطات الدستورية الثلاث بالتخلي عن اختصاصاتها الدستورية والتنظيمية ، وتوسيع نطاق المجال المحفوظ ، والحال أن دستور 2011 كرس من حيث المبدأ مقتضى استقلالية القضاء ونصبه سلطة دستورية بعد أن كانت مجرد جهاز في يد السلطة التنفيذية يشرعن لدولة التعليمات، ونزع رئاسة النيابة العمومية من وزير العدل كعين تنفيذية رقابية على منظومة العدالة، كما حول البرلمان من مجرد مؤسسة تمارس التشريع، إلى سلطة تشريعية بتوسيع مجال القانون من 9 مجالات إلى 30 مجالا، وتمكين البرلمان من صلاحية رسم أوتشريع السياسات العمومية ، ولو أن المبادرة التشريعية ظلت حكرا على مشاريع القوانين التي تختص بها الحكومة ( حكومة نصفها تقنوقراطي معين بخلفيات أمنية و غير منبثق عن صناديق الاقتراع المفترض أنها نزيهة وديمقراطية وغير مؤطرة بالتقطيع السياسي المنحز من السلطة العمومية وعقلها الامني )، وذلك باستمرار هيمنة ما يسمى بسياسة العقلنة البرلمانية المستوردة من فرنسا منذ دستور الجمهورية الخامسة لسنة 1958 ، والتي تهدف في عمقها إلى تكريس آلية دستورية تروم تقليص مجال القانون، والحد من سيادة البرلمان في ممارسة التشريع والرقابة، بعلة منع تغول البرلمان وهيمنته على السلطة التنفيذية إضرارا باستقرارها. ليظل السؤال المنتج للتقويم أو الإصلاح الاستدراكي: كيف السبيل إلى تقليص هيمنة العقل الأمني وتمكين السلط من حق رقابة ونقد و مساءلة بعضها البعض ، كل حسب مجال اختصاصه، تشريعيا وقضائيا ؟ وكمرحلة انتقالية ، ما هي حظوظ وممكنات اطلاق النقاش العمومي و التفكير في التأسيس لتوسيع تدابير إصلاح عقيدة النظام السياسي من خلال رد الاعتبار لمقتضيات النظام البرلماني كصمام أمان ضد هيمنة الدولة الأمنية او فزاعة دولة القضاة ؟
مصطفى المنوزي