لنرجع مجددا إلى كتاب الدينوري وإلى ما ساقه العروي في شأنه: “لنفرض أن مؤرخا إسلاميا لا يتوفر إلا على [كتاب] الأخبار الطوال للدينوري، ولنفرض أنه لاحظ تشابها بين هيكل الكتاب وملحمة فارسية قديمة فراح يؤول كتاب الدينوري، لا بالرجوع إلى منطق الأحداث، ولكن إلى منطق النمط الموروث الدال على استمرار الذهنية الآرية حتى بعد اعتناق الإسلام واستيعاب اللغة العربية. هل تبقى له وسيلة لمعرفة ما وقع بالفعل في فارس بعد الفتح؟ هل يبقى أي مجال لبحث تاريخي بالمعنى المعروف؟” (“مفهوم التاريخ”).
حاولنا في مقال سابق (“الغيرية والرواية التاريخية عند عبد الله العروي”) أن نرصد مكامن الغموض والالتباس في هذه الأطروحة وعلى الطابع الفضفاض للمفاهيم (“هيكل الكتاب”، “منطق الأحداث”، “الاعتناق”، “الاستيعاب”) التي تستند إليها. فالمقاربة الوحيدة التي تفرض نفسها على كل باحث واعٍ تماما بثقل الأطروحات التي يسوقها تستلزم المقارنة بين خبر محدد من تلك التي يشملها كتاب الدينوري وبين ملحمة أو حكاية فارسية قديمة بعينها. فباعتماده المعالجة هذه سيتوصل الباحث إلى نتائج تنافي تماما ما يذهب إليه العروي. هذا طبعا في حالة تبنيه مقاربة صارمة ومتينة تقتضي الارتكاز على المعطيات اللغوية والثقافية الموضوعية لاستبدال مفردة “آري” التي تثير سجالات لا محل لها في النقاشات العلمية المتزنة بمفردة “هندي-أوروبي”.
يذهب جورج دوميزيل الذي يحيل إليه العروي بإسهاب (“مفهوم التاريخ”) مكتفيا بالتركيز على نظريته المتعلقة بالوظائف الثلاث، إلى أن حكاية البنت التي تخون ذويها وتساعد العدو على الاستيلاء على مدينتها ثيمة مشتركة بين الشعوب الهندية-الأوروبية بحكم تقارب موروثها اللغوي والثقافي وتماثله. والنموذج الذي يسوقه دوميزيل على أنه الرواية النموذجية لهذه الثيمة هو حكاية طاربيا الرومانية التي خانت شعبها ومكنت الأعداء السابين من الاستيلاء على الكابيتولين، وبدل أن يفي الأعداء بوعدهم ومكافأتها يلجؤون إلى حيلة تمكنهم من التخلص منها وقتلها دون السقوط في الحنث، والأمر لا يتعلق بواقعة تاريخية ولكن بأسطورة لا جدال في أنها من أصل إغريقي.
بحكم انتمائهم إلى المنظومة الهندية-الأوروبية فالفرس ورثوا هذه الثيمة وأدمجوها في مخزونهم الثقافي على شكل حكاية وردت عند الدينوري وكتاب آخرين فرس وعرب تتفرع إلى عدة روايات، ما يدل على أصولها الشفوية، فهي وإن اتفقت على أن البنت التي تخون ذويها وتمكن العدو من الاستيلاء على المدينة التي يحاصرها وتتسبب في مقتل أبيها، هي النضيرة بنت الضيزن ملك الحضر، وعلى أن الملك الفارسي الذي يستفيد من خيانة البنت ينتمي إلى السلالة الساسانية، فالملاحظ أنها تجد صعوبة في تحديد هويته على نحو لا يقبل الشك، فهو تارة أردشير بن بابكان مؤسس الدولة الساسانية (السراج، “مصارع العشاق”، ابن الجوزي، “ذم الهوى”)، وتارة سابور (“شاپور”) الأول بن أردشير الملقب بسابور الجنود (الثعالبي، “غرر أخبار ملوك الفرس”، الطبري، “تاريخ الرسل والملوك”، ميسكويه، “تجارب الأمم”، ياقوت الحموي، “معجم البلدان”) وتارة سابور الثاني الملقب بذي الأكتاف (الدينوري نفسه، “الأخبار الطوال”، ابن قيم الجوزية، “أخبار النساء”).
والملاحظ أن حبكة الحكاية تتفاوت من حيث الثراء والتشابك من رواية لأخرى، خاصة فيما يتعلق بأسباب النزاع التي دفعت الملك الساساني إلى محاصرة المدينة ومدى مساهمة البنت في إسقاطها بين يدي العدو والأسلوب الذي تتبعه لتنفيذ خطتها. إلا أن العناصر المحورية في الحكاية التي تمكن المحلل من تسليط الضوء على ماضيها الهندي-أوروبي بقيت صامدة لا تتغير، والأمر يتعلق هنا على وجه الخصوص بالحيلة الذكية التي يستعملها الملك الساساني للتخلص من البنت وقتلها، تماما كما فعل السابون مع طاربيا، دون الرجوع عن الوعد الذي سبق وأعطاها إياه. هل يحق لنا الاكتفاء بالتعامل مع هذه الحكاية على أنها “شهادة” تاريخية والمضي قدما في سعينا لتحديد مدى مطابقتها للأحداث المتضمنة فيها أم إنه يجب علينا الرجوع مسبقا كما يحث العروي نفسه على ذلك، كما سنرى فيما يلي، إلى “ذوي الخبرة” المتخصصين والبناء على أحكامهم؟
التعامل البرغماتي الذي يلجأ إليه العروي في استثماره لمختلف المواد والمفاهيم التي يستعملها في تحليلاته يدفعنا إلى التساؤل حول السهولة التي “ينسى” بها مختلف الأطروحات التي يسوقها والتي لا يتردد دون إحساس بالحرج في الرمي بها عرض الحائط كلما أحس بالصعوبة والمجهود الذي عليه بذله للعمل بها. ترى أية وجهة كانت ستأخذها نظريته حول القطيعة التي يحدثها الفتح الإسلامي لو طبق حرفيا ما سبق له وطرحه في سياق آخر وهو: “لا يأخذ المؤرخ الكلمة، أو الأسطورة (الأسطورة مشددة وخط التشديد مني) أو اللوحة الزيتية، إلا بعد أن يكون الخبير قد درسها من قبل. هناك إذن أشياء قابلة لتكون شواهد، بمجرد أن يطرح المؤرخ سؤالا أو يتقدم بفرضية في شأنها، شريطة أن يوجد خبير ليهيئ مسبقا أصل الشاهدة” (“مفهوم التاريخ”).
وهل ثمة خبير أكثر حنكة وتمرسا من جورج دوميزيل عندما يتعلق الأمر بالمخزون الثقافي للشعوب الهندية-الأوروبية؟ والأدهى من ذلك هو أن العروي لا يكتفي بالتنازل عن مواقفه وتجاهل “خبرة” سلطة بقوة ومكانة الباحث الفرنسي لضبط تحليله لعلاقة المؤرخين الفرس المسلمين بماضيهم الهندي-الأوروبي على نحو محكم ‒هذا على الرغم من أنه يحيل إليه مرارا وتكرار‒ بل يبيح لنفسه أن يعطيه درسا في انتقاء مفاهيمه وأن يستبدلها بأخرى حتى في الاستشهادات التي يضعها بين مزدوجتين ويقدمها على أنها ترجمة، من المفترض أن تكون أمينة، لما ورد في كتاب دوميزيل، وهذا “التصحيح” يشمل العنوان نفسه. لا شك أن للعروي الحق في التدخل في النصوص التي يحيل إليها، لكن التصرف في الإحالات والاستشهادات شيء، والإحجام عن تنبيه القارئ إلى مواطن التصرف في النصوص، خاصة تلك التي تقدم على أنها استشهادات حرفية وتأتي موضوعة بين مزدوجتين، شيء آخر. تشبث العروي بمصطلح “آري” واستهتاره بالمبادئ الأولية التي تفرض على الباحثين والمترجمين الالتزام بالأمانة في تعاملهم مع النصوص التي يحيلون إليها أو يترجمونها يدفعان به إلى “تصحيح” مصطلح “هندي-أوروبي”، الركيزة الأساسية لكتاب جورج دوميزيل الذي يحيل إليه، واستبداله بمصطلح “هندآري” وذلك منذ العنوان الذي يصبح في إحالة العروي “الأدلوجة الثلاثية عند الهندآريين”، الصيغة المعدلة للعنوان الأصلى أي “الإيديولوجية الثلاثية لدى الهنديين-الأوروبيين « indo-européens ». وإذا كان العروي يتعامل بهذا الأسلوب البئيس مع باحثين من قيمة دوميزيل ذي السمعة الدولية والذي وقف حياته على دراسة الشعوب الهندية-أوروبية ودرس في أعلى مؤسسة أكاديمية في فرنسا وهي كوليج دو فرانس، فما بالك بكُتاب أقل شهرة ومن الصعب على القارئ الرجوع إلى نصوصهم الأصلية.
نستنتج مما ورد معنا إلى حد الآن أن على الباحث الراغب في تحديد حجم وعمق تأثير المعتقدات الدينية والعوامل اللغوية من الانطلاق من النصوص ذاتها ومختلف الروايات والتتبع المتأني لما يطرأ عليها من تغيرات وتعديلات وتشوهات عبر العصور والأحقاب، وليس الانطلاق من أفكار مسبقة تجعل من الدين عصا سحرية تُحول كل ما تلمسه ليتخذ الهيأة التي تريدها له.