‏آخر المستجداتلحظة تفكير

رشيد بازي: حديدان والآخرون

من المحقق أن التناسخ يمثل إحدى المكونات الأساسية للحكاية الشعبية، على اعتبار أن الظروف التي يتحتم على الحكواتي إلقاء حكايته فيها ومختلف العوامل التي ترافق عادة التواصل الشفوي كيفما كانت طبيعته وأبعاده والتي تتمحور أساسا حول ما يسمى في اللسانيات (آندريه مارتينه، على وجه التحديد) بالمجهود الأدنى، من شأنها أن تطبع المنتوج السردي بالميل صوب الاقتباس والاقتصاد وبالاغتناء عن طريق التكرار وبالدخول في جدلية مستمرة بين الثبات والتحول، فيصبح من الطبيعي أن تتغير الشخصيات وأن تتكاثر عن طريق التقليد والتناسخ وأن تتقلص في خاتمة التحليل إلى حد يمكن لنا معه اختزالها في نماذج نمطية محدودة.

ويكفي للتحقق من هذا الجانب المحوري للتقاليد الشفوية الاهتمام عن كثب بشخصية حديدان وبتعدد الحكايات وأسماء الأبطال (فبالإضافة إلى حديدان نجد امقديش، احمو بوخروفة، اشويطر إلى غير ذلك) وبنقط التقارب والتباين الموجودة بين مختلف الروايات المتعلقة بهذه الشخصية. وعلينا أن ننبه كذلك إلى أن اختلاف الروايات يمثل هو الآخر مؤشرا بالغ الأهمية على الطابع الشفوي للأساليب التي يتم بواسطتها نقل الحكاية، فبحكم غياب نص مُدون يثبت على نحو صارم الصيغة النهاية للعمل السردي يصبح هذا الأخير ملكا لكل الحكواتيين الذين لا يترددون في التدخل فيه على هواهم.

الخيط الناظم لكل الحكايات المتعلقة بحديدان يتخذ، كما هو الشأن في الحكاية الشعبية بصفة عامة، شكل مفارقة محورية وغنية بالإمكانيات السردية. والأمر يتعلق هنا بالجمع في شخصية البطل الأساسي بين صغر سنه وضآلة جسده من جهة، وبين ما يتميز به من ثقة في النفس وذكاء خارق وقدرة نادرة على اختراع الحيل لإجهاض المؤامرات التي تحبك ضده، من جهة أخرى.

وبالموازاة مع هذه المفارقة تظهر مفارقة أخرى لا يجب إهمالها رغم حضورها الباهت وذلك لأنها تساهم في ترسيخ وإبراز المفارقة المؤسسة للحكاية. فالشخصية التي تضطلع بدور المعتدي في حكايات حديدان وهي الغولة تستمد هي الأخرى ديناميتها من مفارقة مترسخة تستقطب أحداث الحكاية لتطويعها والحؤول دون المساس بتماسك شخصية البطل المحوري، فهي شريرة وقاسية القلب وفي الآن عينه ساذجة وتصدق بكل سهولة كل ما يقوله لها الطفل الذي تسعى جاهدة إلى الظفر به.

على مستوى التهيكُل السردي للحكاية تتخذ هاتان المفارقتان شكل صراع مثير بين الطفل والغولة ينتهي آخر الأمر بموت هذه الأخيرة، بمفردها أو رفقة قريبات لها، حرقا بالنار على يد خصمها الصغير. ما يترتب عنه ظهور مفارقة أخرى وهي التي تتمثل في قدرة الطرف الضعيف ذي البنية الهشة على القضاء نهائيا على الطرف الذي يرمز في الحكاية الشعبية إلى القوة والشراسة.

والروايات المختلفة التي يمكن تسجيلها في هذا السياق لا تعمل كلها على ترسيخ هذه المفارقات والتأكيد عليها بالحدة نفسها. فبعضها يكتفي بالإشارة إلى أن البطل هو أصغر إخوانه في حين أن البعض الآخر يضيف بأنه يتميز كذلك بضآلة جسده بشكل غير طبيعي. فعلى غرار ما هو موجود في رواية سجلت في مطلع القرن المنصرم بمنطقة الريف شمال المغرب فالأمر يتعلق برجل له سبع زوجات وسبع أفراس تعاني جميعها من العقم.

يقصد الرجل شخصا لم تحدد الحكاية هويته يعطيه سبع تفاحات وسبع عصي وينصحه بمنح تفاحة إلى كل واحدة من زوجاته مؤكدا له بأن أكل التفاح سيمكن نساءه من الشفاء تماما من عقمهن، كذلك الأمر بالنسبة للأفراس إذا ضرب كل واحدة منها بعصا وبقوة إلى حد تكسيرها. إلا أنه عند مروره بقرب قرية يلاحقه كلب فيضطر إلى ضربه بإحدى العصي التي كانت معه فتتكسر ولم يبق في حوزته إلا نصفها، كذلك يحس الرجل في طريق رجوعه بظمأ شديد يضطر معه إلى قضم إحدى التفاحات وأكل نصفها. وبالتالي فالزوجة التي تأكل نصف التفاحة المتبقي تلد طفلا ضامرا وتختار له اسم حديدان وكذلك فالفرس التي ضُربت بنصف العصا تلد صغيرا ناقص الخلقة.

كما أن بعض الروايات لا يقتصر على التأكيد على ذكاء الطفل وقدرته على ابتكار الحيل ويذهب إلى حد تطعيم شخصيته بخاصية تجعلها تتمتع بقوة غير عادية وهي القدرة على البقاء يقظا كل الوقت. وهذه الميزة تنمي طبعا من استطاعته على البقاء باستمرار على أهبة للدفاع عن نفسه وعن إخوته الكبار.

واختلاف الروايات يطال كذلك الظروف التي يلتقي فيها الطفل بالغولة. فحسب إحدى الروايات فالطفل يلتقي صدفة بالغولة وذلك لأنه يذهب إلى الصيد بجوار منزلها دون أن يتعمد ذلك. وطبقا للرواية الأكثر ذيوعا فحديدان يذهب هو وإخوته الكبار في رحلة إلى مكة برفقة أبيهم الذي قرر الذهاب لقضاء الحج. إلا أن طول المسافة ومشقة السفر ينهكان الأولاد ويرغماهم على التوقف الواحد تلو الآخر وعلى الطلب من أبيهم أن يبني لهم دارا يقيمون فيها بانتظار رجوعه. إلا أن المواد الهشة، على الأقل بالنظر إلى القوة الهائلة التي تتمتع بها الغولة، لم تكن صلبة إلى حد يمنع هذه الأخيرة، والتي كانت تقتفي آثار الأب وأولاده، من اقتحامها والتهام ساكنيها.

أما حديدان فهو يطلب من أبيه أن يبني له دارا من الحديد، الشيء الذي يمكنه من الصمود أمام هجمات الغولة ومن الخروج من حين لآخر لإنهاك حمارتها والسخرية من بنتها، هذا طبعا قبل التمكن من قتل هذه الأخيرة والقضاء على أمها بإحراقها بالنار. وفي رواية أخرى فحديدان لا يقتل بنت الغولة بل يتزوجها بعد أن حلفت له بأغلظ الأيمان بأنها ستتخلى نهائيا عن طبيعة الغيلان لتصبح امرأة آدمية عادية. ويذهب بعض الباحثين إلى أن الرواية التي تتحدث عن ذهاب حديدان برفقة أبيه إلى الحج هي الأقدم، وذلك لأنها تقدم تفسيرا مقنعا لظهور اسم حديدان وذلك بربطه بكلمة حديد، أي المادة التي يختارها البطل لبناء داره. إلا أنه من الصعب بمكان تبني أطروحة كهذه لاعتبارين اثنين.

فهناك من جهة التنوع والاختلاف اللذان يطبعان حكايات حديدان ويتطلبان تمحيصا عميقا لرصد نشوء هذه الشخصية ومختلف المراحل التي مرت بها وطبيعة الحكايات والشخصيات التي ساهمت في إغنائها. وهناك من جهة أخرى قدم وعراقة شخصية حديدان. فمن المؤكد أنها تنتمي إلى الإرث الثقافي المشترك بين الشعوب الأمازيغية، فهي توجد مثلا في الجزائر حيث تحمل اسم احديدوان أو أحديدوان، كما هو الشأن في منطقة القبائل، ومن المحتمل أنها تضرب بجذورها في أعماق مرحلة تاريخية سحيقة. فانعدام مثيل لها في الحكاية العربية المشرقية والتشابه الكبير الذي نجده بينها وبين شخصية عقلة الإصبع الغربية دفعا ببعض الباحثين إلى التأكيد بأن الإرهاصات الأولية المبشرة بظهور شخصية حديدان يمكن إرجاعها إلى المرحلة الرومانية من تاريخ شمال إفريقيا.

ولهذه الاعتبارات يصبح من الاعتباطي الاعتماد على عنصر ذي طبيعة لغوية، خاصة وأن الأمر يتعلق بعنصر جزئي كالاسم، لتأريخ ظهور شخصية أو ثيمة ما. فليس من النادر أن يضيف الحكواتيون والنساخ على الحكايات تفاصيل كالأسماء أو يطرحوا تبريرات لجعل المادة السردية التي توصلوا بها أكثر تماسكا أو أقرب إلى أذواق المتلقين الذين يتوجهون إليهم. الشيء الذي يحتم على الباحث الرجوع إلى المكونات المُهيكلة للحكاية كالموتيفات ومدى ارتباطها بالنسق العام. وعلى الأرجح فاسم حديدان وامقديش ناتجان عن تحريف اسمَي احدو واقدو، وكذلك فالبطل الذي تفرع فيما بعد إلى عدة شخصيات كان في الأصل يحمل اسما مركبا يشي بضآلة جسمه وهو احدوقدو.

وإذا أردنا حصر الحكاية التي دفعت بالحكواتيين إلى التفكير في ابتكار شخصية مستقلة تحمل المكونات التمهيدية لظهور حديدان فسيتوجب علينا الاهتمام بشخصية أخرى لا تقل أهمية عن شخصية حديدان، خاصة وأن كل المؤشرات تدفع إلى التفكير بأنها تضرب هي كذلك بجذورها في أعماق الإرث السردي المشترك بين كل الشعوب الأمازيغية، ويتعلق الأمر هنا بهَاينة أو اهنيّة أو لونجة أو مامزا حسب الروايات. فطبقا لإحدى الحكايات الأمازيغية (الجزائر) المتعلقة بهذه الشخصية فالغول يخطف البنت ويحملها إلى داره، والإخوة السبعة الذين يأتون تباعا لقتل الغول واسترجاع أختهم يفشلون في مهمتهم ويموتون كلهم قتلا.

ما اضطر أمهم إلى التوجه إلى الله ضارعة لكي يرزقها طفلا آخر مهما كان الثمن الذي سيتوجب عليها دفعه للحصول عليه كأن يكون الطفل “بحجم حرباء”. وهكذا تلد الأم طفلا ضئيلا لن يتمكن أبدا من أن يتجاوز من حيث الحجم “رأس حمار”، ورغم ذلك سيتمكن من قتل الغول وبقر بطنه لاسترجاع عظام إخوته لتمكينهم أخيرا من الاستقرار في قبور. يمكننا إذن أن نستنج بأن شخصية حديدان كانت في الأصل جزءا من حكاية هاينة وبأن الثيمة التي كانت تتمحور حولها، أي الصراع بين طفل ضئيل الحجم وغول شرير، تمكنت من الاستقلال فيما بعد لتصبح حكاية مكتفية بذاتها ولتتنوع وتتحول باحتكاكها بحكايات أخرى كحكاية عقلة الإصبع.

وتجدر الإشارة إلى أن أهمية شخصية حديدان لا تكمن فقط في غنى المكونات التي ساهمت على مر العصور والحقب في تشكلها وإعطائها ملامحها المميزة بل وكذلك في الدور الذي لعبته في نشوء تقاليد سردية خاصة ببعض المجتمعات الإفريقية. فالباحثة الأنثروبولوجية الفرنسية دونيز بوم تذهب إلى القول بأن عددا من الشخصيات الموجودة في الحكايات السودانية والمالية بل وحتى الكوت ديفوارية لا يمكن فهمها إلا على ضوء شخصية حديدان.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button