‏آخر المستجداتلحظة تفكير

رشيد بازي: كنيسة مراكش التي شيدها الموحدون

 في مقال نُشر في مجلة “هيسبيريس” (العدد رقم 7، سنة 1927) يتطرق الباحث الفرنسي المتخصص في تاريخ المغرب بيير دو سينيفال (1888-1937) لمختلف مظاهر حضور الديانة المسيحية في مراكش خلال أربعة قرون ابتداء من العهد المرابطي. في ما يلي ترجمة للجزء الذي كرسه للظروف التي أقدم فيها الموحدون على تشييد كنيسة بالقصبة في مراكش والتي لا علاقة لها بتلك التي توجد حاليا في حي جليز والتي يرجع تاريخ تأسيسها إلى سنة 1928:

“في سنة 1227 توفي السلطان أبو محمد عبد الله العادل وتم تعيين أخيه أبي الأعلى إدريس المأمون خليفة في إسبانيا وليس في إفريقيا، وتحتم عليه العمل على التمكن من الحكم بشكل كامل والدخول في صراع مع منافسه ابن أخيه يحيى بن الناصر والذي تم تعيينه من طرف أشياخ الموحدين بمراكش، ولم يجد بدا من الاستنجاد بفرناندو الثالث، ملك قشتالة، الذي أمده فعلا بفرقة عسكرية تتكون من اثني عشر ألف فارس مسيحي رافقوا المأمون عند دخوله إلى مراكش سنة 1230.

إلا أن ملك قشتالة لم يسد هذه الخدمة بالمجان وطالب بالحصول مقابلها على عشرة حصون من تلك التي توجد فوق التراب الإسباني، بالإضافة إلى هذا فالمأمون مرغم على منح الميليشيات المسيحية الحق في ممارسة شعائرها الدينية بشكل علني بما في ذلك التوفر على كنيسة تدق أجراسها، أمور يعتبرها أي مسلم من الفظاعة بمكان، والأدهى من ذلك يتوجب عليه إعطاء المسلمين الحق في اعتناق الديانة المسيحية إذا رغبوا في ذلك ومنع أفراد الميليشيات المسيحية من الدخول في الإسلام.

من البديهي إذن أن هذا التسامح مع المسيحيين أملته شروط اتفاق على السلطان الجديد الخضوع لها حتى يضمن إخلاص أنصاره [المسيحيين] الذين مكنوه من الاستيلاء على الملك والاحتفاظ به. وهناك عامل آخر تجب الإشارة إليه، وهو أن العداوة التي كانت تستعر في الخفاء بين الأسرة الملكية وأشياخ الموحدين، وهم من سلالة رفاق ابن تومرت، والذين كانوا يعتقدون بأنه لهم الحق الكامل في صيانة التقاليد التي تركها هذا الأخير وفي تعيين السلاطين والوصاية عليهم، بدت للعيان وبشكل عنيف.

فالمأمون الذي بلغ إلى الحكم رغم أنف الأشياخ وانتصر بمساعدة جنوده المسيحيين أسس نظاما مضادا للموحدين أدى ليس فقط إلى إبادة أشياخ الموحدين وذويهم في مجزرة رهيبة، ولكن إلى ظهور اتجاه ديني مناقض تماما لما كان يلاحظ خلال حكم سابقيه. فبمجرد أن وصل إلى مراكش، صعد المأمون على المنبر في مسجد المنصور ليلقي خطبة ويلعن أمام الملأ ابن تومرت “وقال أيها الناس لا تدعوه بالمهدي المعصوم وادعوه بالغوي المذموم […] ولا مهدي إلا عيسى”.

ولا يجب الاستخلاص من هذه الأقوال بأن السلطان عزم على اعتناق المسيحية، رغم أن البابا، وعلى ما يبدو، اعتقد ذلك وتمناه، ولكن فقط بأنه عقد العزم على التحرر وتحرير حكمه من كل ما أتى به الموحدون من معتقدات وترسيخ السلطة والهيبة اللتين أصبح يتمتع بهما كخليفة. ولم يكتف بالأقوال وأملى عدة إجراءات ورد ذكر بعضها في “القرطاس” وفي مؤلف ابن خلدون والهدف منها طمس كل ما كان ساريا قبل مجيئه.

وليس من الغريب في شيء أن تثير هذه الإجراءات بالإضافة إلى كل الامتيازات التي منحت للمسيحيين والتي تعتبر المؤشر الأكثر جلاء على الاتجاه الذي ينوي النظام الجديد اتخاذه، حفيظة أنصار الخط التقليدي. فعندما كان المأمون وميليشياته المسيحية مشغولين بمحاصرة سبته عامين بعد ذلك، أي سنة 1232، احتل يحيى بن الناصر مدينة مراكش ونهبها، وأول ما بادر بالقيام به هو اجتياح الكنيسة المسيحية.

والملاحظ أن هذا الحادث لم يحظ بالاهتمام الذي يستحقه ولم يأت ذكره إلا في إشارة مقتضبة وردت في “القرطاس”، وهي كالتالي: “[…] اغتنم يحيا الفرصة فنزل من الجبل فدخل مراكش وهدم كنيسة الروم التي بنيت بها وقتل كثيرا من اليهود وبني فرخان وسبا أموالهم”. وهذا النص مقتضب على نحو كبير ويحتاج إلى بعض التفسير. صحيح أنه يتحدث بشكل جلي عن تقويض الكنيسة، إلا أن قيمته لا تكتمل في ما يخص مجزرة المسيحيين إلا إذا تمكنا من الوصول إلى النتيجة التالية وهي أن المقصود ببني فرخان، وهو اسم قد يُضل القارئ غير المطلع ويدفعه إلى الاعتقاد من الوهلة الأولى بأن الأمر يتعلق بإحدى القبائل، هو أعضاء الميليشيات المسيحية.

المعنى الأول للمفردة العربية “فرخ” هو صغير الطير، أو صغير الحيوان، ثم اكتسب في ما بعد معنى الطفل الصغير وكذلك معنى “طفل غير شرعي” وهذا المعنى التحقيري الأخير يعبر في الآن ذاته عن احتقار اتجاه المسيحيين وعن شيء من التعاطف الذي يثيره عادة كل من لا يزال يتمتع بالقوة وعنفوان الشباب.

وعلى الرغم من أن المغاربة دأبوا على استعمال هذه المفردة بالمعنى الأخير للتحدث عن الميليشيات المسيحية فهي قلما ترد في النصوص. فإلى جانب الفقرة التي جاءت في “القرطاس”، هناك فقرة أخرى وردت في “أخبار المهدي بن تومرت وبداية دولة الموحدين” للبيذق […]، تتحدث عن قائد مسيحي يحمل اسم جرنده ذهب إلى درعة سنة 1169-1170 برفقة ثلاثمائة وخمسين من “إيفرخان” (وهي جمع مفردة “أفروخ”)، وهي الصيغة المستعملة لدى البربر، والتي تعني في بعض اللهجات، وحتى أيامنا هذه “الطفل الصغير”.

ومفردة “فرخان” ذاتها هي التي أعطت الكلمة الإسبانية “فرفان” (ج “فرفانيس”)، وهي على حد قول [العسكري والمؤرخ الإسباني] مارمول كارباخال (1520-1600) كانت تستعمل في إسبانيا خلال القرن السادس عشر للتحدث عن أحفاد أفراد الميليشيات المسيحية التي كانت تعيش بالمغرب والتي رجعت إلى الأندلس في أواخر القرن الرابع عشر”.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button