المريض :
تتبع الأخبار .. أصبح يصيبني بالمغص .. ويسبب لي حرقة في الكبد وألما في الطحال وارتجاجا في عظمة القلب .. ودوخة حد الغثيان في الرأس وقشعريرة في المفاصل وارتعاشا في المخ .. وزيغانا في النظر وطنينا في الأذن .. فبماذا تنصحني يا دكتور ؟!
الدكتور :
يلزمني قبل ما أجيبك أن أقوم بتشخيص بسيط ..
ولكن قبلها .. قل لي ..
متى بدأت هذه الحالة عندك .. أقصد .. متى أخذت تشكو من كل هذه الآلام ..
المريض :
لقد بدأت رويدا رويدا .. كنت بصحة جيدة .. أمارس تماريني الرياضية بالتزام وأنضبط لحمية غذائية صارمة .. حتى أحسست ذات صباح وأنا أقرأ على لوحي الإلكتروني نبأ لقاء وصف بالتاريخي بين زعيمي قبيلة الثعالبة و قبيلة الأرانبة .. برعاية دولية أشرف عليها ممثل أممي.. بدوار خفيف لم أعبأ به توا حتى أحسست بحرقة .. وبمريئي الغليظ يتلوى فتجشأت عاليا ثم ضرطت .. وارتفعت حرارتي فلم ينفعني إلا قرص فوار من دواء ” البوكلوفيريل جيمبري” ..
ولكن في العشية .. وعندما كنت مستلقيا أحتسي كأس حليب ساخن بالشوكولا على فراشي الناعم الوتير .. أجول بين الفضائيات حتى توقفت عند قناة “لغو نيوز ” المحطة الأشهر على شاشة التلفزيون .. هل تعرفها ..
الدكتور :
نعم .. نعم .. إنها مشهورة للغاية ..
المريض :
لقد عرضت هذه القناة الملعونة نبأ بالبنط العريض تقول فيه المذيعة الصارمة بمكياجها الفاضح أن كل القنافذ بفضل سياسات الزعيم القائد الفذ المفدى صارت ملساء .. فلم أشعر إلا وكأن قنبلة انشطارية تفجرت في مخي .. فسقط من يدي كأس الحليب الساخن وأهرق على فخدي.. والنتيجة .. حريق من الدرجة الثانية لم يسعفه إلا ذلك المرهم السحري العجيب الذي أنتجه مختبر “دواؤوليل كومبريمي” واسمه “برديبريلير” ..
الدكتور (بإعجاب) :
نعم .. نعم .. إنه الأفضل على الإطلاق لعلاج الحروق ..
المريض :
آه يا دكتور .. مصدر الألم ليس الحروق ولا نبض القلب المتسارع ولا أي شيء .. مصدر ألمي هو الأخبار .. إنها تقتلني ببطء .. تبلدني وتمحو روحي .. تمسخني فأتخيلني في أحلامي التي صارت كوابيس وحشا ضاريا يلتهمني .. عضوا عضوا .. حتى لا يبقي مني شيئا .. إلا العظام والزغب ..
الدكتور (متقززا) :
لهذه الدرجة لديك حساسية من الأخبار ..
المريض :
وأكثر يا دكتور .. وأكثر ..
لن تتصور حجم ما أكابد كلما قرأت خبرا .. أحس بأقدامي تطيش في الهواء متشوقة لتركل أي شيئ .. فينمو لي ذيل وينتفخ رأسي حتى يصير ضخما للغاية .. ثم تعتري أذناي حرارة لا قبل لي بها ولما أرفع يداي لأفركهما عسى أهدئ سخونتهما لا أقدر .. فبعيني أبصر أنهما صارتا حافران قويان يضربان في الأرض .. بينما أذناي تطاولتا حتى إنهما تطاوعاني لأهش بهما ذبابا لم يجد إلا محجري الدامعين ليحط عليهما ..
ولا يتأكد لي فعلا أنني قد تحولت إلى “حمار” إلا حين أهم بالصراخ فأنهق !
الدكتور :
فهمت .. حالتك واضحة تماما .. وعلاجك بسيط جدا .. ولن تحتاج لا لعقاقير ولا لأدوية .. كل ما ستحتاجه قليلا لتشفى هو أمر واحد .. الابتعاد عن التلفزيون ومواقع الأخبار .. اكتف فقط بالرياضة والموسيقى والمطالعة ومجالسة أحبتك .. واشرح لهم أن يبعدوك ما أمكن عن تلقط أي خبر .. كيفما كان .. خصوصا أخبار الحكومة .. لقد أعيت الأطباء أنفسهم .. فما بالك بالناس العاديين البسطاء ..
المريض :
آه يا دكتور .. لا أستطيع .. أنا شخص حكم عليه مدى الحياة بعقوبة الخبر وكل مايليه من تقارير واستطلاعات وبرامج وتصريحات وبيانات وبيانات مضادة وبلاغات .. ولا يمكنني ذلك .. لا يمكنني ..
الدكتور :
لماذا .. هل أنت وزير .. كاتب دولة .. سياسي يعني ..؟!
المريض :
لا لا .. أنا مجرد صحافي .. إنها مهنتي ..
الدكتور :
هنا .. فعلا .. حالتك صعبة جدا ..
ما نوع دمك لتأخذ الممرضة عينة منه نجري عليها بعضا من التحاليل ..
المريض :
المدهش يا دكتور أنني صرت بلا دم .. لم يعد تسري في شراييني وفي عروقي قطرة دم واحدة .. قطرة دم واحدة لن تجد .. حتى لو عصرتني ..
الدكتور :
هذا لا يمكن .. غير ممكن أن يكون هناك كائن بلا دم .. حتى السمك فيه دم يا رجل .. حتى الحلزون ..
المريض :
أعطني مشرطا ودعني أجرح أصبعا لتتأكد بعينيك مما أقول .. و لا تحسب قط أن من يكلمك به هوس أو فصام أو نمط من أنماط الجنون .. لا .. فأنا عاقل تماما ..
وإذا لم تصدق دعني أفعل ما قلت لك .. خدش بسيط لن يضير ..
الدكتور :
لا .. لا .. لا داعي .. أصدقك رغم ما في قولك من عجب عجاب ..
لا بأس .. استلق على الأريكة لأراقب نبضك وأحصي عدد أنفاسك شهيقا و زفيرا .. قبل ما أدخلك جهاز الفحص بالأشعة ..
المريض :
شكرا جزيلا يا دكتور .. نادرون هم أمثالك من واسعي الصدور وعميقي التجربة وبعيدي النظر و عاليي الخبرة .. نادرون حقا ..
الدكتور :
أشكرك على إطرائك ..
ولكن ، قل .. وضعت السماعة فلم أسمع نبضا .. كيف ..
المريض :
المصيبة أنني صرت أنسى كثيرا .. فقد نسيت أن أقول لك أيضا أن قلبي توقف تماما منذ خمسة أشهر تقريبا .. ولم يعد كما في السابق خفاقا راعشا حرا قويا دفاقا .. بل لقد صمت صمتته الأخيرة وانطفأ كما تنطفئ الذبالة في الدجنة .. ولا أخفيك .. من يومها ارتحت أكثر ..
الدكتور :
فهمت .. حالتك مستعصية حقا وبلا علاج .. فأنت مصاب بداء الموت المكتبي الارتجاعي واسمه العلمي .. “لاموراتينوكسي بيليكسيدو فومانيسو”!
المريض :
وما العمل دكتور .. هل هناك أمل ، بصيص من أمل نتشبث به لبلوغ مخرج من حالتي .. فأشفى ..
الدكتور (واضعا رأسه في الأرض) :
للأسف .. لا .. لا يوجد ..
لا أمل .. لم يحدث لحد اليوم أن عاد من الموت أحد لنفعل ذلك .. خصوصا إذا كان قد مضى على زمن موته أكثر من خمسة أشهر .. !
(أكتوبر 2020)
*كاتب وصحفي