مع الجيل الأول للفضاء الشبكي كان الاتصال بالعالم الافتراضي محدودا ومقتصرا على من له حاسوب، ومعرفة بأوليات العالم الرقمي، ومتصلا بهذا الفضاء. كانت المواقع الرسمية والعلمية والشخصية والمنتديات والمدونات، مفيدة ومجدية. أشبه هذه الحقبة الأولى بمرحلة الكتابة في تاريخ البشرية، حيث كانت الكتابة والقراءة متاحة لفئة قليلة من الناس. ومع الجيل الثاني (Web 2.0) الذي بدأ يفرض نفسه منذ 2006، وظهور منصات وسائل التواصل الاجتماعي، وتطور الهاتف الذكي، ورخص ثمنه، وتوسع إمكانية الاتصال بالفضاء الشبكي، صارت إمكانية التعامل مع الواقع الافتراضي متاحة لكل الناس كلما تطور الزمن. لقد صرنا وكأننا ندخل مرحلة جديدة، بدا أن الانتقال فيها تم من الكتابة، والعودة مجددا إلى الشفاهة، وقد باتت تكتسي بعدا صوريا، وهو ما أسميه «الشفاهة الصورية». مع هذه المرحلة صار بإمكان أي شخص، كيفما كان مستواه الثقافي والاجتماعي، أن يصبح منتجا ومتلقيا في الوقت نفسه. إن تطوير المنصات الجاهزة، التي لا تتطلب معرفة رقمية خاصة أتاح للجميع فرصة التفاعل مع غيره، وتقديم نفسه للآخرين.
كان من نتائج هذا التطور نقل كل ما كان يتداول في المجالس الخاصة، وحتى العامة إلى هذا الواقع الافتراضي الجديد. وكان للإقبال الواسع الذي عرفه هذا الواقع من لدن مستعملي الهواتف الذكية أن بات يشجع على استثماره لتقديم الذات، والتعريف بها، وبما يعتمل فيها من هواجس، أو طموحات شخصية لإثباتها وفرضها على الآخرين. وكان أن اختلط الحابل بالنابل، وصار كل فرد مؤهلا لذلك، ما دام يرى من هم أقل منه «موهبة» في «الكلام» لهم زبائن، ومشجعون ومتابعون. وأصبح هذا الفضاء زاخرا بكل النزعات والأهواء، والأفكار والضلالات. فتجاور الجد والهزل، والصدق والكذب، والعلم والشعوذة، وكل بما لديه فرح جذلان، يرى نفسه لا يختلف عن بقية «النجوم» التي أسطرتها وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية.
أشبه هذه الوسائط الجديدة، ولاسيما ما اتصل بها بـ«الشفاهة الصورية» (اليوتيوب مثلا)، بالحلاقي في الثقافة الشعبية المغربية. كانت هذه الحلاقي تحتل حيزا من الساحة العمومية، قريبا من الأسواق الشعبية، حيث اكتظاظ الناس، في الواقع الواقعي. وكل «حلايقي» يقدم ما لديه من فرجة عابرة لكل من يتحلق حوله، وهو يقدم «سلعة» خاصة تبدأ من الأغاني والرقصات الشعبية، إلى بيع الأعشاب، وسرد النكت والحكايات والقصص، مرورا بتفسير الأحلام، والوعظ والإرشاد، وترقيص الأفاعي والقردة، وهلم جرا. ليس هذا التشبيه متعسفا ولا متكلفا. ففي غياب الساحة العمومية، وفي إطار هيمنة وسيلة جديدة للتواصل بين الناس، حلت الحلاقي الافتراضية محل الحلاقي الواقعية. وكل من عنده وقت ليس له ما يفعل به، أو أين يقضيه، ما عليه سوى فتح هاتفه في البيت، أو المقهى لمتابعة عجائب وغرائب العوالم التي كان آباؤه يتتبعونها، بعد صلاة العصر في الحلاقي الشعبية.
لكن هذا التشابه بين نوعي الحلاقي لا يخفي الفرق الشاسع بينهما على صعيد نوع الفرجة، أو مقدمها. وهنا يمكننا التمييز بين الحلايقي التقليدي، و»الحلايقي» الذي يفتح له قناة لترويج بضاعته. الحلقة الواقعية فضاء شعبي تهيمن فيها الشفاهة سواء برزت من خلال الأغاني أو السرود، أو التجارة، وحتى من يقدمون فيها الوعظ والإرشاد الدينيين هم «فقهاء» من الدرجة الخامسة. إن الحلايقي التقليدي إنسان «شفوي» يتعامل مع جمهوره بشكل مباشر، وحسب قدرته على الإبلاغ، والإفحام يمتلك جمهوره، فتجد حلقته غاصة بالناس. وهنا يمكننا الإمساك بالفرق بين نوعي الحلايقية.
الحلايقي الواقعي ذو موهبة لغوية، تجعله قادرا على توليد الكلام، لأن ثقافته شعبية، وذاكرته تختزن عوالم لا حصر لها. تتولد لديه الحكايات، وله قدرة على الربط بينها، وتقديم فرجة استثنائية. ويمكن قول الشيء نفسه عن المطربين ورواة الحكايات والسير الشعبية. إنهم جميعا يقدمون كل ما يمتع الجمهور. لكن فقهاء الدرجة الخامسة الذين لا موقع لهم في المؤسسة العلمية يدعون الانتماء إليها خطابيا، ولا يمتلكون سوى معلومات دينية بسيطة لوعظ الناس، فلم يكن لهم حظ غيرهم من الحلايقية الذين يكون الإقبال عليهم، ولاسيما رواة السير الشعبية. ولذلك كانوا يؤلبون جمهورهم ضد هؤلاء، بزعم أن ما يقولونه ليس سوى كذب في كذب. وكانت عبارة: «قال الراوي في الكذوب الخاوي» ما يكررونه دائما لمنع جمهورهم للالتحاق بهم. أشبّه بعض «المثقفين» الذي استهوتهم «الحلاقي الافتراضية»، والذين يدعون أنهم تنويريون، وعقلانيون، بهذا النوع من الفقهاء، مع فارق أساسي، هو أن هؤلاء الفقهاء متواضعون. أما الحلايقية الافتراضيون فيدعون أنهم وحدهم يمتلكون حقائق الأشياء التي يخفيها عنا من كانوا يدرسوننا، سواء تعلقت بالقرآن الكريم، أو الحديث النبوي، أو التاريخ الإسلامي. إنهم يحلفون بالله أنهم توصلوا إلى تفسير وإبطال كل ما ظل المسلمون يعتقدونه طيلة عدة قرون. إنهم يسقطون الأساطير بنشرهم الحقائق المخفية.. ولديهم الوثائق التاريخية، والقدرة على تأويل ما التبس في الدين والتاريخ.
استغلال الحلاقي الافتراضية شفاهية مبتذلة، وتعبير عن عجز ممارسة الكتابة العلمية التي تكشف مقاصدهم الحقيقية، وجهلهم الفظيع.
*كاتب مغربي