ـ كتب: مصطفى غلمان ـ
ـ جزء من قراءة كتاب “الأنساق الرمزية للعبور والاغتراب في الشعرية العربية الراهنة” للباحث د محمد ايت لعميم ـ
كما هو دأبه، يبحث الناقد المغربي محمد ايت لعميم، ضمن منجزه البحثي والأكاديمي، عن التخوم الشعرية الجديدة ومتجاوراتها، لا ينفك عن سبر أغوار التجارب العربية والمغربية، المقطوفة بسنارات الرمز والإيغال وحالات الاغتراب، بما هو فك لعوالم تشفير أنساق لا تخرج عن خصيصات “التنوع” وطفرة “الذات” ونظرتها “للعالم والكون”.
في كتابه الجديد “الأنساق الرمزية للعبور والاغتراب في الشعرية العربية الراهنة”، الصادر عن دار أكورا بطنجة 2024، يستحث ايت لعميم فرائد نصية من أرض المنثور، كمن يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ، مسنودا بأبنية نقدانية واعية بالأشكال المستلهمة للصيرورة الشعرية المنفلتة، تأسيسا على ما وصفه، في المقدمة، ب” ازدهار الأجناس التركيبية مثل “قصيدة النثر” و”الرواية الشعرية”.
ويعترف الكاتب، بصعوبة قراءة هذه التحولات والتجاذبات. بيد أنه، يقبض على جمر المغامرة، مسافرا عبر حفريات ماوراء تناقضات الشعريات المعاصرة، وانصرافاتها الشكلية والفلسفية والجمالية، مراهنا، في الآن ذاته، على القبض الشفيف، على ما يرطب كبد الخيال، ويمسح قيض الدوال، مما يتعالق إزاء تلكم الآفاق المتكشفة على نذور القول الجديد “غير المألوف”، و”البناء المعماري” المستبصر لروح الصور الشعرية، و”التخفف من أعباء النمطية والقول المطروق”..
إن ما يثير النظر في منجز الاختيار هذا، ذلك التناظر والتجادل، المستفيقان من إسار حدود المعرفة بين ماهو شعري وغيره؟، إذ المعلوم، بالضرورة، والعقل أيضا، أن يرتكن الناقد المبصر الحذق، إلى التلبس الفصيح والواعي بالمتن الشعري وأجناسه وتاريخه وإبدالاته وفروعه وأصوله وحقائقه الإبداعية والجمالية.. إلخ. وهو ما يتوفر حتما، في تجربة الكتابة النقدية حول هذا الضلع السميك من فكر المؤلف، وقدرته على فهم تقاطعات وتلبسات الصيرورات الشعرية وعوالمها الغامضة والمهدورة. فقد سبقت يده الإبداعية والنقدية لاستكناه التجربة الشعرية العمودية ارتباطا بعبقري كل الأزمنة “أبي الطيب المتنبي”، في دراسته حول “المتنبي في المناهج النقدية الحديثة”. ثم ما لبت أن تشابك مع القصيدة الأكثر جدلا في التاريخ المعاصر والحديث، من خلال دراسته حول قصيدة النثر من خلال بعض المفاهيم التي رسخها جون بيير ريشار وميكائيل ريفاتر، التي اصطفى لمقامها مدارة اشتغاله العلمي لنيل شهادة الدكتوراه.
وعلى هذا، ولغير ذلك، يصير مقبولا، أن يرعى طيلة خمس سنوات سالفة، فكرة إقامة مهرجان لنماذج متفردة من نثريي العرب بالمدينة الحمراء، قبل نهاية الألفية السابقة، وكأنه يطوي بذلك، فسحة نظيرة، من عنوان مرحلة، ظل يستنكف، عن مسح رواء الكلم، وحدوده دون أن يبرد مهماز قلمه أو يستشعر هنة أو صدادة؟.
الحساسيات الشعرية المختلفة، التي اختارها الناقد محمد ايت لعميم، ليركب بها سفينة إبحاره، نحو اكتشاف أبهاء وعوالم التجارب إياها، ليس للإنصات والدنو من أنفاس النصوص فقط، بل الاحتواء السحري لثنائية “العبور والاغتراب”، وكأنه يؤول إلى عناق قصيدة “غريبٌ على الخليج” لبدر شاكر السياب، الذي يهمس في عيون الفارين من الموت وهم يذرفون الأعينا، على فراق أوطانهم! قائلا: شوقٌ يخضُ دمي إليه … كأن كل دمي اشتهاء. جوعٌ إليه .. كجوع كل دمّ الغريق إلى الهواء..
فبين “العبور” و”الاغتراب”، يد مهيمنة، تندس بين فكرة غربة العقيدة والانتماء والأشياء الهاربة، فتحاصرها بالشك والتجرد والتدوير اليومي والهشاشة الفاقدة للإحساس والامتلاء الروحي والوجداني. وقد خص لها الباحث المؤلف، مسلكا في “بوهيميا” الأدب والفن، تتكأ على بعض من التفكير الحر المطلق غير المقيد، يجنح إلى “الترميز” وصناعة “المجاز الأغواري” و”المياه العميقة للذات”. لكن، الحقيقة الأخرى، والتي تصير فيها كل تلك التجارب المقروءة، والتي تجمع سركون بولص بسيف الرحبي، كما أمجد ناصر، من جهة، ونجوم الغانم بمحمود عبد الغني، كما بطه عدنان، عابرة للخيالات والهواجس، ونافرة إلى توليفة ثقافية ونفسية مغايرة، بعيدا عن أنساق “الجغرافيا المكانية”، وأسئلة “الكيف والأين؟”، متسربلا بمكنونات تروم خلق التوتر والإيغال في أشراك النفس الشعرية، وهي تذوق جحيم الغربة ونيرانها المصطلية، بعيدا عن الوطن وسمائه الرطيبة، موجها أصداء استفهاماته المنذورة لما يميز طبيعة تكوين قصيدة النثر، المتحاورة وأنماط الجدة والتجديد ، وما يطبع شحنات البلاغة فيها وداخلها، خصوصا ما يقترب من ثلاثية “الكثافة والإيجاز واللاغرضية”. وهي أوعية يضخ الناقد في أورادها دماء لا تحذوها حدوس ولا مرائي، دون المرور من حبل “المعنى”، عمقا وصورة وتسورا بنصل الشعر وروحه البصيرة.
للحديث بقية