بعد مرحلة المنفى الاضطراري التي عشت خلالها مع عائلتي متنقلا بين مدريد والجزائر إلى فرنسا، التي أقمت فيها طويلا لمدة قاربت العشرين سنة، بدأت أفكر في العودة إلى الوطن. كنت على بينة، وعلى شبه يقين من استيعاب المرحلة، خاصة بالنسبة للنظام. وأن المرحلة يشوبها نوع من استراحة المحارب، بين المعارضة والنظام، خصوصا بعد حدث المسيرة الخضراء والانتخابات البلدية والبرلمانية 1976و1977.
و باعتباري كنت خصما، بل وعدوا للنظام، فقد بدأ نوع من التفاهم والاحترام، من جهة النظام تجاهي، وبخاصة أنني كنت ضد المغامرات. واتضح أن المعلومات التي وصلت الأجهزة عني كان جزء منها مفبرك وغير صحيح. وعندما قررت العودة، ورغم أنني كنت جد متعاطف مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بقيادة الراحل عبد الله إبراهيم، إلا أنني قررت عدم الانخراط في تنظيم حزبي. وكان قرار عودتي إلى المغرب قرارا شخصيا، تشاورت فيه فقط مع زوجتي.
هذا، وفي هذه المرحلة، أي 1979 وقبلها في الستينات، ربطتني علاقة وثيقة بالصديق علال سي ناصر وزوجته السابقة الأخت حورية بنيس، وأبلغته برغبتي في الاستقرار والعودة للمغرب. وعلال سي ناصر كانت له علاقات مع بعض رجالات الدولة في المغرب. وقد تولى فيما بعد وزارة الثقافة، وأبلغ السلطات المغربية بذلك خاصة المرحوم ادريس البصري، والذي أثناء إحدى زياراته لفرنسا في نفس السنة – 1979- طلب من الأستاذ علال سي ناصر أن نزوره بفندق كونتينتال بباريس الساعة 6 مساء، فأبلغني سي ناصر بذلك. ووافقت والذي استغرب موافقتي، فقلت له لا تنس أن الأمر يتعلق بوزير الداخلية ويجب علي مقابلته، والتقينا في نفس الزمن والمكان، وكان المرحوم ادريس البصري مضطربا. فأسر لي: “لقد كنت أنتظر أن أرى غولا؟.” فأجبته: أنا إنسان.
طلب مني البقاء في فرنسا إلى حين زيارة الملك/المرحوم الحسن الثاني ومقابلته، وأخبرته بتسلمي جواز السفر من السفارة المغربية بفرنسا، كما اشتريت بطاقات الرحلة وأي لقاء يمكن تحضيره في المغرب، أما الآن، فلا أستطيع الانتظار، وبعد خروجي من اللقاء ، عاتبني علال سي ناصر على موقفي. وتعللت بوجودي في المنفى، من أجل مبادىء، ولست مثل الباشا التهامي الكلاوي. وأي لقاء من هذا النوع يجب أن يكون في الوطن.
بعد العودة إلى المغرب، انشغلت في أمور الحياة. وكنت أحيانا أتلقى اتصالات من هنا وهناك. خاصة بعد الاقتراحات التي تطلب مني المشاركة في الانتخابات ودخول البرلمان، وقد عرضها علي المرحوم ادريس البصري عدة مرات، وكنت أجيب بالرفض، وفي مرة مع البشير الفكيكي وإدريس البصري رفضت عرض البرلمان، فتساءل المرحوم إدريس البصري موجها كلامه للبشير الفكيكي: من أين يعيش؟ فأجابه الفكيكي: هو هكذا دائما. وللذكرى، فالبشير الفكيكي عرفته في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، عندما اعتقل مع خلية كريان بن مسيك، وكان قاصرا لا يتعدى عمره 15 سنة، وأثناء فترة السجن نظمت داخل سجن أغبيلة بالدار البيضاء مدرسة كان ضمن تلاميذها البشير الفكيكي، وتحوز الشهادة الابتدائية التي كانت شهادة محترمة آنئذ، وبقي مدة طويلة معنا في السجن، لأنه كان قاصرا ويعتبر حدثا، وبالتالي لم يحاكم آنذاك.
وفي 1983، كان الفكيكي حاضرا مع المرحوم البصري وهو يُلح علي للمشاركة في انتخابات 10-06-1983، وأبلغني أن هذا مطلب الدوائر العليا، فعبرت له عن رفضي. وكنت مقتنعا بأن الانتخابات ليست هي الحل في المغرب، إذ يجب تهييء الظروف الاقتصادية والاجتماعية قبل أي انتخابات، وهو نفسه موقف المرحوم عبد الله إبراهيم. ولما ألح علي كثيرا، قلت له: كيف تطلب مني الانخراط في جهاز بني على المال والذهب وشراء الأصوات؟. وتوقف منذ ذلك الحين على الضغط علي. لكن بعد بضع سنوات خاصة بعد الثامن من ماي 1990 وخطاب الملك /الراحل الحسن الثاني حول تأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الانسان، اتصل بي ليلا على الهاتف، وطلب مني الموافقة على اقتراح عضويتي في المجلس، والتمست مهلة يومين لأفكر.
كانت المرحلة صعبة، سواء من الناحية السياسية أوالدولية أوالاجتماعية. وقد فكرت أن الأمر يتعلق بمجلس استشاري وليس تقريري، فضلا عن كونه قد يسمح بإبداء الرأي في موضوعات عديدة، سواء تعلقت بالقضاء أو بالسجون أو بحرية التعبير، خصوصا أن تأسيس هذا المجلس الاستشاري تزامن مع إنشاء المحاكم الإدارية، وبعد يومين وافقت على العضوية في المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، الذي اختير المرحوم محمد ميكو كاتبا عاما له، والذي كان رئيسا للمجلس الأعلى للقضاء، وكان واسع الاطلاع على المستوى القانوني، وقد ربطتني علاقة جيدة به، إذ زرته في منزله مع صديقي علال سي ناصر، وكان يشاورني في عدة أمور، إلا أننا اختلفنا بشدة عندما شارك مع أحد أعضاء وزارة الداخلية في برنامج تلفزيوني بل هددت بالاستقالة، وعند لقائي به، أبلغته أن لا ينسى صفته وموقفه وليس من الاحترام للمجلسين الاستشاري والقضائي أن يكون مع عنصر أمني، فاعتذر عن ذلك، مبررا موقفه الناتج جراء الظروف والضغوط وأنها لن تتكرر (رحمه الله كان رجلا طيبا).
من أهم “الطرائف” المؤلمة إن صح التعبير، التي وقعت لي أثناء تأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، أن الملك الراحل الحسن الثاني –رحمة الله عليه- أقام لأعضاء المجلس وغيرهم حفل استقبال بدار السلام، وكنت بعيدا عن منصة الحفل عندما تمت المناداة علي: الجبلي…الجبلي، فذهبت إلى المكان الذي يوجد فيه الملك الراحل، وبعد السلام بدأ يؤكد لي كونه مرتاحا لعضويتي في المجلس. وثمن نضالاتي في المقاومة والحركة الوطنية، وكان على يساري المرحوم ادريس البصري، وعلى يميني مولاي أحمد العلوي، وكانا يلكزاني للانحناء والتقبيل في كل مرة، وبعد كل جملة يفوه بها الملك الراحل، وكنت لا أتحرك ولا أنظر إليهما، حتى اكتملت كلمات الملك الراحل، ولما تغاضيت، لكزني بعنف الذي على يميني، كانت أقواها لكزة مولاي أحمد العلوي العنيفة.