ألقى الأخ عبد الكريم ابن الشهيد محمد الزرقطوني، خطابا أشار فيه إلى كون الشهيد سي محمد الزرقطوني، كان محتضنا من إحدى الزوايا التي لعبت دورا في حمايته وتوجيهه، وهو أمر جديد تماما لم يسبق أن طرح منذ استشهاد الأخ محمد الزرقطوني في 1954 حتى الآن، وليس فقط كونه خطابا جديدا بل كون الشهيد الزرقطوني لم ينتمي لزاوية ما أوحمته أو أشرفت عليه أو شيء من هذا القبيل أو مَوّلته هو والمقاومة.
تعرفت على الشهيد محمد الزرقطوني في أكتوبر من سنة 1953، بعد شهرين فقط من نفي السلطان محمد الخامس إلى مدغشقر وعزله عن العرش، ولم نفترق إلا لظروف معيشية أو أمنية حتى استشهاده.
وكان الشهيد عندما عرفته مساعد تاجر أخشاب. وكان جاره في الدكان المناضل محمد بن موسى الذي عرّفَني بالشهيد الزرقطوني مع شقيقه المناضل أحمد بن موسى الذي كان رفيقي في الدراسة بمراكش.
كانت زيارتي للدار البيضاء في خريف 1953 بعد مظاهرة 15 غشت 1953 بمراكش، التي أطلق عليها مظاهرة المشور، واستشهد فيها ضمن الشهداء المرحومة فاطمة الزهراء واعتقل المئات. وكانت احتجاجا على محاولة نفي محمد الخامس التي أصبحت حقيقة بعد 20 غشت 1953، وسافرت إلى البيضاء قصد الحصول على أسلحة لأننا بمراكش لم نملك إلا مسدس أو اثنين غير جيدة، فكان سفري للبيضاء لهذا الغرض نظرا لطبيعة المدينة ومينائها الكبير، وكانت علاقتي بالمدينة وحركتها الوطنية تعود لعام 1951، عندما احتفل بي ورفاقي بمراكش، بعد أحداث اعتقالنا من طرف باشا مراكش، ونضالنا بجامعة ابن يوسف، وقد فصلت في هذه الأحداث في كتابي “أوراق من ساحة المقاومة المغربية“.
وفي الأسبوع الأول من تواجدي بالبيضاء كنت أتجول في أحياء المدينة، وضمن الأحياء التي زرتها سوق بيع الأخشاب عندما التقيت برفيق الدراسة أحمد بن موسى في دكان أخيه محمد، وكانت تربطني علاقة جيدة بأحمد عندما كنا ندرس ببن يوسف، في حين لم تك لي علاقة بأخيه محمد بن موسى الذي كان على معرفة جيدة بي وبالحركة الوطنية بمراكش من خلال أخيه أحمد الذي كان قد وضع شقيقه في الصورة، فكان أن تعرفت إلى الأخ محمد بن موسى في الغد من لقائي بأحمد بن موسى حيث وجدته ينتظرني، فطلب مني التعرف إلى شخص ما لم يذكر اسمه أو صفته، وإنما أشار بصورة غامضة إلى أهميته في تحقيق ما جئت أبحث عنه في البيضاء، وضرب لي موعدا معه في (محطة العلم)، وهي محطة كانت توزع البنزين وتقع في مديونة قرب درب الكبير. وفي هذه المحطة كان الدكتور محمد الخطيب فاتحا عيادته، وسلمني محمد بن موسى نسخة من مجلة تدعى “باري ماتش” فرنسية، وأبلغني أن نفس الشخص سيحمل نسخة من نفس المجلة. وكان أن التقيت لأول مرة بالشهيد محمد الزرقطوني، ولم نجلس في أي مكان بل كنا نتحاور مشيا في شارع السويس وهو الآن شارع المقاومة، وهو شارع عرف فيما بعد عمليات مشهودة لخلية المقاومة بالبيضاء. وروى لي أثناء اللقاء أهداف خلية المقاومة بالبيضاء، وحكيت له عن أهداف خلية مراكش واحتياجنا للأسلحة، فأبلغني أن السلاح مصدره الشمال المغربي.
وهكذا ربطت بيني وبين الشهيد الزرقطوني علاقة وطيدة، وكنا لا نخفى عن بعضنا أي معلومة شخصية أو عامة باستثناء الأسماء حتى لا يسيء اعتقال أحدنا لباقي أعضاء الخلايا أو ضرر للجماعة. وكنا نتصل ببعضنا في منزل بدرب السلطان هو منزل المناضل عبد الرحمان الورضاني، وأحيانا أماكن أخرى. وكانت الحاجة بريكة شفاها الله زوجة عبد الرحمان الورضاني، تهتم بنا وباحتياجاتنا، وكنا نتحاور في أكثر من الأحيان مع الإخوة: الحسين برادة، وأحمد شنتر، وعبد الله الصنهاجي، وحسن لعرايشي، وسليمان العرايشي وهو أحد الأصدقاء الحميميين للأخ الزرقطوني، وحسن الصغير، والداحوس الكبير والصغير، فعدد هام من أعضاء المقاومة مروا من هذا المنزل الذي كان ملجئنا في الأزمات والحالات الحرجة، وكان له ولصاحبه وزوجته دورا هاما في تاريخ المقاومة المغربية باعتباره أحد مراكز الاجتماع واللقاء ووضع الخطط والتخفي.
وكانت الحوارات التي نخوضها مع الشهيد الزرقطوني همها الأول والوحيد توجيه المقاومة في المدن المنظمة وتعزيزها في مدن أخرى والحرص عليها أمنيا، وقمنا بإنشاء خلية الرباط التي واجهت –أي خلايا المقاومة بالرباط- نكسات بعد اعتقال الخلية الأولى والثانية، وكان من عناصرها عبد الفتاح سباطة، وعبروق، واعمر، ولخصاصي، والثانية واجهت نفس المصير. ثم قمنا بتأسيس الخلية الثالثة ومن أهم عناصرها الداهمو والداعمر والأخير كان من مدينة طاطا، ومحمد بولحية هو الذي قدم لي الداعمر. وقد استمرت هذه الخلية مدة طويلة دون أن تصلها يد الأجهزة الأمنية الاستعمارية، كما توفرت على أسلحة للعمل وفرناها لها، وكل ذلك كان باتفاق وموافقة خلية البيضاء وعلى رأسها الشهيد الزرقطوني، وهكذا في كل الأعمال والخطط والنقاشات، وحتى الحوارات الساخنة التي كانت تدور بيننا عن المقاومة في البيضاء ومراكش وفاس والرباط وغيرها من المدن المغربية، لم تكن الزوايا موضوع نقاش بيننا.
وخلال هذه المرحلة، كان الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة جزءا من النقاشات لتعزيز هذا الرأي أو ذاك…وقد نصلي جماعة أو أفرادا حسب الظرف ولم يتفوه أبدا الشهيد الزرقطوني أو أحدنا بانتمائه إلى زاوية ما، بما فيهم الأخ محمد الزرقطوني الذي من المعلوم كونه درس في الكتاب القرآني ثم في المدرسة الابتدائية بالمدينة القديمة. وكان أثناء سنتي 1953 و1954 يملي الرسائل التي كان يكتبها البشير شجاع الدين، وكانت تكتب بالماء ولا تظهر الحروف إلا بعد تسخين الورقة، وفيما بعد تعلمنا كتابة وتوجيه الرسائل بأحرف مشفرة، فكون الشهيد كان منتميا إلى إحدى الزوايا وأنها احتضنته أمر لم يسبق أن كان، رغم أن والده كان مقدم لزاوية في المدينة القديمة، فهذا ليس استثناءا فأغلب أعضاء وزعماء الحركة الوطنية كان آبائهم وهم أحيانا منخرطين أولهم علاقة بإحدى الزوايا.
ولم تكن تحتضن أحد منهم أو الدفاع عنه، فالزوايا ككل في تلك المرحلة وغيرها، كانت لا تهتم ولا تشجع على ممارسة الشأن العام بمعناه السياسي، فأهدافها التخليق والتربية. وكانت ولازالت ضد العنف، فالموعظة والإقناع والسلوك السلمي كان ولازال شعارها وممارستها، بل إن بعضها أو شيوخها أحيانا كانت لهم علاقة بالدوائر الاستعمارية وبالسلطة انسجاما مع المبادئ العامة أي التسامح مع الجميع في إطار المبدأ العام والإقناع بالموعظة الحسنة، إذ لم يسبق للشهيد الأخ محمد الزرقطوني إن كان منتميا لإحدى الزوايا قد يذهب في مرحلة الصبا كما كنا نذهب جميعا مع أسرنا وآباءنا إلى الزوايا، ولكن في مرحلة الشباب والرجولة لم يك منخرطا في أي زاوية بل روى لي خلافاته في هذا الشأن مع والده في هذا الصدد بل كان لا يزور منزله العائلي القديم في المدينة وسكن بعيدا حتى لا تؤدي زياراته إلى مشاكل لعائلته وأقربائه، كونه كان معروفا بعلاقته بالحركة الوطنية، وكانت الشرطة الاستعمارية وأعوانها يراقبونه بالضرورة.
وقد حكي لي في مناسبات مختلفة أن والده كان ينهاه عن الانخراط في الحركات السياسية بحكم أنه كان قبل مرحلة المقاومة المسلحة عضوا نَشِط في حزب الاستقلال، ولأن والده كان مقدما لإحدى الزوايا كما ذكرنا سابقا، فكان ينهاه عن الانخراط في الأحزاب، وذلك انسجاما مع مبادئ الزوايا التي تهدف إلى التربية والابتعاد عن الشأن العام بمعناه السياسي، وحتى الأوراد كانت تسلك نفس المسلك، وكوني ربطت بيني وبين الشهيد محمد الزرقطوني علاقة وطيدة، فلم يكن منتميا لأي زاوية ولم تحتضنه أي زاوية ولم يشر إلى ذلك قط بل كان هو وجسم المقاومة محتضنا من طرف الشعب المغربي وقواه الحية، أما مسألة التمويل فكانت تأتينا من أفراد في الحركة الوطنية وخارج الحركة الوطنية ، وأيضا عندما بدأنا في تأسيس جيش التحرير تلقينا مساعدات من العراق و سوريا ومصر والجالية المغربية في الخارج، وكان للأستاذ الراحل علال الفاسي دور في ذلك، خصوصا في ربط علاقتنا بالشرق العربي.