ـ يخص مقالات جديدة لموقع “كش بريس” ـ
في أواخر سنة 1949 وبداية 1950، كانت الحركة الوطنية بمراكش ممثلة في حزب الاستقلال في أوج نشاطها، وبادر الراحل عبد الله إبراهيم -توفي في 2005- عندما عاد بعد دراسته بفرنسا بقيادة عملية تجديد وإنشاء خلايا للحركة الوطنية، وخاصة في حي القصبة، وهو حي فريد يعتبر جزءا من المدينة وفي الوقت نفسه منفصل عنها. وكان له قائد خاص هو السي حسي أخ باشا مراكش التهامي الكلاوي -توفي في 1957-، وكان أبرز عناصر الحركة الوطنية في حي القصبة الشهيد محمد البقال –أعدمه الاستعمار الفرنسي في 1954– فتكلفت بالاتصال به وإنشاء خلايا بالحي لأن هذا الحي يعاني من تسلط القائد حسي الكلاوي، وبالفعل ذهبت إلى الحي والشهيد محمد البقال يتوفر على دكان يمارس فيه تجارة بيع المواد الغذائية بالتقسيط، وبدأنا في الدعاية بين جمهور المصلين في المساجد الصغرى التي تقتصر على الصلوات الخمس دون صلوات الجمع نستقطب الجمهور لتلقي دروس محو الأمية وفي الوقت نفسه نقوم بتوعية الحاضرين بأهداف الحركة الوطنية.
وقد ربطتني علاقة وثيقة بالشهيد البقال وصرت عضوا في عائلته وصار عضوا في عائلتي، وبدعم من والدته رقية إحدى الأمهات العظيمات، والجميع يناديها أمي رقية وابنتيها زينب وفاطمة. وكان للشهيد محمد البقال شقيق اسمه أحمد ، وهو متزوج بالسيدة فاطمة العلوي شقيقة حرمي فيما بعد (أمينة)، وأمهما مطلقة واسمها حبيبة ووالدهما مولاي أحمد العلوي الذي تزوج أيضا بالسيدة فاطمة الزهراء، وهي أول امرأة شهيدة إذ اغتالها المستعمر الفرنسي أثناء مظاهرة 15-08-1953 ضد قرار نفي محمد الخامس والتي سميت ب”مظاهرة المشور”، وقد أطلق تكريما لها اسم شارع فاطمة الزهراء في المدينة بعد الاستقلال، الذي يدعى شارع الرميلة.
وأمينة ووالدتها تزوران باستمرار شقيقتها وابنتها فاطمة المتزوجة بأحمد شقيق الشهيد محمد البقال، بل كانتا شبه مقيمتين عندهم، وحتى الاعتقالات التي طالت عائلة الشهيد. كانت الشرطة الاستعمارية تعتقل معهم أم أمينة لأنها بالنسبة لهم جزءا من العائلة، وقد لعبت أمي رقية والدة الشهيد دورا في التقريب بيني وبين أمينة الذي تطور من الخطوبة إلى الزواج، جيث رويت لها قبل الزواج أن ظروفي الاجتماعية جد عادية، وأنني لا أدري مصيري مع الظروف السياسية، واقتنعت بذلك لأنها مُشبعة بالجو النضالي في منزل الشهيد محمد البقال خاصة أمنا رقية التي تذكرني دائما برواية الأم للكاتب الروسي مكسيم غوركي التي قرأتها مرات عدة في 1958، تم عقد الزواج بمنزل والدي في حي قاعة بناهيض الذي أصر على إجراء حفل رغم رفضي، وتم الزفاف بحضور عائلة أمينة وعائلة الشهيد البقال وعائلتي فقط، وآنئذ كنت عضوا وجزءا من خلية المقاومة في الدار البيضاء، لي سكن هناك مكترى وأخذت أمينة إلى البيضاء حيث أقمنا. وبدأت الاعتقالات ضد عناصر المقاومة في البيضاء في أواخر الخمسينات من القرن الماضي بادعاءات غير مبررة من طرف النظام، وانتقلت إلى منطقة كَلميم لأن هناك سلاح جد مهم كان مخفيا لدى جيش التحرير، وقد خشينا أن تصل إليه أيادي أخرى غير مسؤولة ، وقد توفرت على سيارة كبيرة من نوع “كادياك“، كنا قد استولينا عليها من مرآب باشا مراكش –التهامي الكلاوي– هي التي أخذنا فيها السلاح ونقلناه إلى ضيعة قرب الدار البيضاء، وتكلف بالإشراف عليه الراحل حمو الفاخري الذي اعتقل فيما بعد، وتم الاستيلاء على هذا السلاح من طرف الأجهزة الأمنية بعد اعتقال الفاخري وجماعة من المقاومين بخلية البيضاء، مما اضطرني لتغيير محل سكني مع أمينة، إذ اكتريت غرفة بحي درب السلطان عن طريق الأخ الراحل العربي محي، الذي تكلف بتزويد العائلة باحتياجاتها. وكان يزورني أيضا الراحل محمد بن سعيد أيت ايدر.
ازداد لي ولدان هما : هند ونزار-رحمه الله-، وبقيت مختفيا حتى 1961. اشتدت الحملات الأمنية لاعتقالي على قدم وساق لدرجة إعلان جوائز مالية لمن يرشد عني، مما شكل خطورة على جسم المقاومة والحركة السياسية لكون اعتقالي قد يؤدي إلى صعوبات جمة للجسم النضالي، فاقترح علي مغادرة البيضاء إلى اسبانيا، وذلك في سنة 1961، وبقيت أمينة متخفية مع الأولاد، وصدر الأمر باعتقالها لكون السيارة التي حملنا عليها السلاح من كَلميم إلى البيضاء مرخصة باسمها. ولحسن الحظ ، فإن محمد بناصر زوج المناضلة خديجة المذكوري يملك ضيعة قرب البيضاء، فقام بنقل أمينة وولديها إلى منزله هناك، ثم فيما بعد قام الراحل المقاوم السعيد بونعيلات بنقلهم إلى الشمال المغربي وساعدهم قائد بمدينة العرائش هو أحمد، ثم إلى تطوان عند محمد بوجنة وهو صهر للقائد أحمد ومن الإعلاميين المعروفين، وهما أيضا اللذان ساعداني للمرور عبر الحدود إلى اسبانيا وقد التحقت بي العائلة في “مالاكَا“، حيث مكان إقامتي، ورغم معرفة السلطات الأمنية الإسبانية بشخصي، فإنها عاملتني باحترام كون الراحل عبد الله إبراهيم أوصى بي خيرا رغم أنه كان خارج الحكومة آنئذ، كما ربطتني علاقة جيدة بالراحل حافظ إبراهيم المقيم في اسبانيا وهو تونسي من كبار رجالات الحركة الوطنية المغاربية، وشيد مختبرا لصناعة الأدوية مع زوجته الإيطالية. وكان لتدخل الأخ عبد الله إبراهيم أن عينت الحكومة الإسبانية ضابطا خاصا للاتصال بي وتسهيل إقامتي التي لم تطل لكوني لم أك مرتاحا للإقامة في اسبانيا، فبمجرد إعلان استقلال الجزائر في 1962 هاجرت مع العائلة إليها، وازدانت العائلة بابن ثالث هو رياض الذي ولد في مدريد، التي انتقلت إليها من “مالاكَا” وصرنا خمسة. وبعد أن قضينا مدة لا بأس بها بالجزائر وازدادت الخلافات داخل المعارضة المغربية حول أسلوب النضال خصوصا بعد التدخل الأمني الجزائري في شؤونها، مما أرغمني على التفكير في منفى جديد هو فرنسا. وساعدتني الحكومة السورية عبر سفارتها في الجزائر، جيث أمدتني بوثائق سفر جديدة باعتباري سوريا، نظرا لعلاقتي الجيدة بالرئيس السوري والزعماء نور الدين الأتاسي وصلاح جديد وزعين، وأذكر أن السيدة سعاد عبد الله المسؤولة عن الشؤون الثقافية في السفارة والتي ترأست الاتحاد النسائي السوري فيما بعد هي من سلمتني الوثائق، وبعد انتقالنا إلى باريس واجهت صعوبة البحث عن عمل لكون المبالغ المالية التي أتوفر عليها ضئيلة، رغم محاولتي العمل في بعض المصانع : كرونو وغيرها، أو حتى في مجال التنظيف،لكنها مجاولات باءت بالفشل، إلى أن وجدت مطعما مغربيا تديره سيدة جزائرية اسمه مطعم “كليوباترا”، وللصدفة تبحث عن طباخ يتقن الطبخ المغربي والذي تعلمته من أمي، وبدأت العمل لديها بشرط أن تهيء لي وثائق حتى أطلب الإقامة، وكنت أسكن في المقاطعة الخامسة إلا أن مسيرة المطعم لم تفي بوعدها فسافرت من جديد إلى الجزائر، إذ تبين أن الوثائق الجزائرية أكثر قبولا بفرنسا من غيرها، وبالجزائر سلموني وثائق جزائرية كاملة لي وللعائلة بمجرد طلبي لذلك. رجعت إلى فرنسا /باريس، وقد غيرت السكن إلى منطقة تدعى”شاميني“، لكوني كنت أحمل وعائلتي وثائق ثبوتية سورية، من ثمة وجب تغيير العنوان والمدارس بالصفة الجديدة باعتبارنا جزائريين.
وأثناء بحثي عن العمل وجدت أمينة عملا كمدبرة منازل بمساعدة علال سيناصر وزوجته حورية بنيس، وعملت في عدة محلات منها منزل لأحد كبار الفرنسيين كان يعشق الطبخ المغربي ومنزله يستقبل ندوات وحفلات ومحاضرات، وبعد رجوعي إلى باريس وجدت عملا كطباخ في شارع “سان ميشيل” القريب من دار المغرب في مطعم اسمه “المشوي“، وبدأت البحث عن محل خاص على حسابي الخاص. ووجدت محلا معروضا للكراء هو جزء من مسرح “بوبينو” وأسست مطعم “أوطاجين” في المقاطعة 14 بباريس ويعمل ليلا فقط، وأمينة هي من تساعدني في جميع أعماله كطباخة ونادلة ومنظفة، إذ سبق لها العمل كما ذكرت سابقا خصوصا لدى إحدى العائلات الفرنسية المثقفة التي كانت تعقد حفلات وندوات.
تشاركت وأمينة العمل وتربية الأبناء، كانت سيدة صبورة ومكابرة، لم تشتكي قط من وضعها أو عملها أو من ظروفي المالية الصعبة. وبعد رجوعي إلى المغرب في 1979 عاشت معي مراحل العضوية في المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وساعدتني في إنشاء ضيعة تامصلوحت وبناء مدرستين، وكانت اليد اليمنى لي في كل هذه المراحل والتي سبقتها، ورغم فقداننا ابننا نزار فقد أظهرت جلدا على هذا المصاب الجلل، وكانت أما عظيمة مثل كل الأمهات، مشبعة بالقيم والتعاليم الإسلامية.