قال صحفي إسرائيلي يعمل في صحيفة هاريتس، إنه أحب غزة. و”كل زيارة لي فيها كانت تجربة إنسانية فريدة في نوعها. الفلسطينيون في غزة يختلفون عن الفلسطينيين في الضفة. حتى قبل 16 سنة، كان هذا مجتمعاً دافئاً وإنسانياً، مؤثراً، شجاعاً، متضامناً، وبالطبع جرب المعاناة”. مستطردا :”لم التق طوال حياتي في غزة “حيوانات بشرية” أو “وحوشاً”. وفي سرد أدبي بليغ، حكا جدعون ليفي، في مقال نشره على هاريتس الأكثر انتشارا في إسرائيل، قال: “رسالة في البريد الإلكتروني باللغة الإنجليزية: “أنا يوفال كسبي، ابنة الدكتور يوسف كسبي. نشرتَ ذات مرة مقالاً عن والدي… آمل أن تساعدني في العثور على المقال وتاريخ نشره”. لم تكن لدي أي فكرة عن ذلك. أرشيف “هآرتس” وجد أنه “في 14 تموز 1995، قبل ثلاثين سنة، زرت مع الدكتور كسبي مستشفى ناصر للأطفال في خانيونس. كسبي، الذي عمل طبيباً في وحدة نخبة في الجيش، ومدير قسم جراحة القلب للأطفال في مستشفى “سوروكا” في حينه، تطوع لمعالجة أطفال من غزة مرضى بالقلب. كان ينقل بعضهم إلى “سوروكا” إذا نجح في الحصول على التبرعات المطلوبة”.
وأضاف “الرحلة في المقال المنسي كانت في عربة الزمن إلى واقع منسي. الآن مستشفى ناصر يقف في مركز المعارك في خانيونس. ينقل إليه القتلى والجرحى بوتيرة عشرات ومئات يومياً. في هذه الحرب لم يعد مستشفى للأطفال، ومشكوك فيه أن يطلق عليه اسم مستشفى، في المكان الذي يحتضر فيه الناس على الأرض، بدون أدوية، ويحاصره الجيش الإسرائيلي من كل الجهات. مدير المستشفى ناهد أبو طعيمة، قال في هذا الأسبوع لراديو “الشمس”: “نزلت علينا كارثة”.
وتابع “لم يبق شيء مما كان في حينه، في أيام الأمل في 1995. ولم يعد الدكتور كسبي يعيش هنا. قالت ابنته إنه هاجر بعد فترة قصيرة في ذلك الحين إلى الولايات المتحدة، بعيداً عن “سوروكا” و”ناصر”. عمره الآن 71 سنة، يتوقع أن يكون عمر هاني الحتوم الآن 40 سنة، ومشكوك فيه إذا كان على قيد الحياة”.
وأوسع بالقول “في صيف 1995 وصل الحتوم إلى مستشفى ناصر بسبب عيب خلقي في صمام القلب الأيمن. كانت نظرته حزينة وشفاهه مزرقة. ضغط دمه هدد بتفجير الشرايين في دماغه. محمد البطش كان أصغر منه، كان في حينه طفلاً ولد في ذلك اليوم، والآن يجب أن يكون عمره 29 سنة. أما زال على قيد الحياة؟ لقد كان يحتاج إلى زراعة قلب. هناك شك في أنه حظي بذلك. وفريد طرطور، من سكان مخيم البريج، بالتأكيد لم يعد على قيد الحياة، وبيته بالتأكيد لم يعد موجوداً. في حينه، جلب ابنه ياسر الذي كان بحاجة إلى زرع نخاع. وسمع بوجود طبيب إسرائيلي في المستشفى، واعتقد أنه ربما ينقذ ابنه. لم تكن أمامه طريقة أخرى لإنقاذه. أما زال الأب والابن على قيد الحياة؟ هناك شك كبير”.
وأكد الصحفي الإسرائيلي على أن “الأولاد والأطفال في صيف 1995 هم الآن مقاتلو حماس. هل كانت أمامهم خيارات وفرص الأخرى؟ ولدوا في زمن الاحتلال، وترعرعوا في الحصار، في ظل عدم الفرص. ربما يقاتلون الآن ضد الجيش الذي غزا ما بقي من بلادهم بعد أن نفذ أصدقاؤهم المذبحة في جنوب إسرائيل، وربما ينبشون الآن في أنقاض بيوتهم التي لم تعد موجودة”.
وتساءل الكاتب “منذ اندلاع الحرب، لم أتجرّأ على الاتصال مع أحد في غزة. خفت من أن حفنة الأشخاص الذين أعرفهم وبعض الأصدقاء لم يبق أحد منهم على قيد الحياة. وإذا بقي، فماذا أقول لهم؟ أن يصمدوا؟ أن يكونوا أقوياء؟ في أفضل الحالات، تم تهجيرهم ويعوزهم كل شيء. أفكر بهم كثيراً. هل هناك أي احتمالية بأن منير وسعد، السائقين المخلصين والعزيزين على قلبي، ما زالا على قيد الحياة؟ منير، وهو من سكان بيت لاهيا، أصيب بجلطة دماغية. المرة الأخيرة التي تحدثنا فيها طلب مني محاولة ترتيب تصريح عمل له في إسرائيل، رغم الشلل النصفي. يمكنه العمل كمترجم للعمال، اقترح. ولم أسمع من سعيد أي شيء منذ فترة طويلة”.
وخلص إلى أنه “أحببت غزة جداً. كل زيارة لي فيها كانت تجربة إنسانية فريدة في نوعها. الفلسطينيون في غزة يختلفون عن الفلسطينيين في الضفة. حتى قبل 16 سنة، كان هذا مجتمعاً دافئاً وإنسانياً، مؤثراً، شجاعاً، متضامناً، وبالطبع جرب المعاناة. لم ألتق طوال حياتي في غزة “حيوانات بشرية” أو “وحوشاً”. ليست لدي فكرة عما فعلته الـ 16 سنة من الحصار بغزة. والآن تقتلها الحرب. ومن غير الصعب التخمين ما الذي سينمو في غزة على ذكرى هذه الحرب”.