علاقات الجزائر مع فرنسا جدُّ مُعقَّدة، ذلك ما يعرفه الطَّرفان، ولا يخْفى على العالم. وآخرُ ما يدلُّ على ذلك تعثُّرات زيارة الرئيس المُنْتدَب للجزائر، عبدالمجيد تبون إلى فرنسا. زيارة تُعلَن لمرَّات عِدَّة، ولمرات عِدة تُؤَجَّل.. تُعلَن في أُفُق خَفْض حِدَّة التوتُّر في علاقات البَلديْن، وعدا بأنْ تكون مَدْخَلا لفتح مسارٍ جديد في تلك العلاقات.
واليوم، لعلَّ تبون يستعين بزهرة الأقحوَان، مُسْتَنْجِدًا بها، وهي الَّتي تُسمّى لدى البعض “زهرة الأمل”، مُتفائِلا بانْتِزاع بتلاتها الواحدة تلْوَ الأخرى، مُرَدِّدًا “ألتقي ماكرون في باريس.. لا أَلْتَقيه، ألتقي ماكرون في باريس.. لا ألتقيه.. ألتقيه…”. والأرجَح، حسَب ما يُرشَّح من أخبار باريس، أن الزيارة مُهدَّدة بالتأجيل. ومرَّة أُخرى، أيًّا كانت المبرِّرات “الخارجة عن إرادة الطرفين”، التأجيل سيكون بطَعْم الإلْغاء. أو هو التسَتُّر اللَّفْظي على تعذُّر إثْمار لقاء تبون وماكرون، على قاعدة “كم حاجة قضيناها بتركها”. إذ بيْن الرَّجُلين، والبلدَيْن، فَجوة، من سوء الفهم وعُسْر التَّفاهُم، لا يريدان الوقوف على حقيقتها، ولا يملكان إرادة ولا وسائل رَدْمِها، أو أَقَلاًّ، فهمَها وتقْليص المسافة بين “شفتيهَا”.
ولهذا تتوقَّع أوساط سياسية وإعلامية فرنسية تأجيل زيارة تبون لفرنسا إلى موعد يصْعُبُ تحديده. ماكرون يبْدو مُرْتاحًا وهو يتصرف كمنتصر، خارج لتوِّه من معركة “سِنِّ التقاعد”، وما بعد المعركة يحتاج منه كل “انْشِغاله” بإزالة آثارها، وترْميم ما كسَّرته أو أعْطَبتْه في الحياة السياسية الفرنسية. يقولون بأن ماكرون “لديه قِططٌ أخرى لِجَلْدِها”… وقطّة تبون يمكنها الانتظار، فهي من فرْط لهْفَتها على فتْح أبواب فرنسا لها، باتت أليفَة، ولا يُتوقَّع منها انْزعاج من طول الانتظار. ورُبَّما أنّ الجهة الفرنسية تحتاج إلى تأمُّل وتريُّث، في الاستجابة لكل أمْنيات الرئيس الجزائري من شكليات ومضامين الزيارة.
الأرجح أن ماكرون لا يرى ضرورة الاستعجال في لقاء تبون في باريس. ما تريده باريس من الجزائر تحقق، أو قيْد التحقُّق
سفير الجزائر في باريس استقبل رئيس مجلس المستشارين الفرنسي، جيرار لارْشي، رغم أن الأخير يُعلي صوته، ضمن أصوات فرنسية، مطالبا بمراجعة اتفاقية 1968 بين البلدين، والتي أقرت امتيازات خاصة للجزائريين، بخصوص التنقل والإقامة والشغل في فرنسا. إعلام القيادة الجزائرية غاضبٌ من البرلماني الفرنسي، والقيادة توجِّه بتلطيف معاملته ومواصلة محاولات استمالته، رغم استفزازاته لها.
قيادة الجزائر استنْفدت كلَّ مكابراتها مع فرنسا، حاولت مُناطحتها عبْر وَخْز ضَميرها بفتْح الذّاكرة الاستعمارية البغيضة لفرنسا في الجزائر.. بكى من بكى وتألَّم من تألّم، وانتهى الأمر بخلق لجنة مؤرِّخين لإعادة كتابة، مُتَعَذّرة، صعبة ومعقدة للتاريخ، وهي مفتوحة على آجال مطَّاطة. نفس القيادة أطلقت “شعلات” غاز في فضاء العلاقات الجزائرية – الفرنسية، عسى أن تُغْري السياسة الفرنسية على إثر تداعيات العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، بمُقايَضة دبلوماسية يكون فيها الغاز مقابِل تفاهم جزائري – فرنسي ضدّ المغرب. ولم تتحقق المقايضة، وواصل عسر التفاهم الفرنسي – الجزائري عسره. حتى وقد أعادت الجزائر سفيرها إلى فرنسا، بعد غضبة وزَمْجَرة لفْظية جزائرية، ودون تراجع فرنسي ولا اعتذار.
“عقيدة” القيادة الجزائرية مركبة من عقدتين؛ عقدة الشعور بالدونية إزاء فرنسا، وعقدة الحقد على المغرب. مع فرنسا لم تَتَحرَّر بعد نفسيا من هيمنتها عليها. في حالة كراهية مُشْبَعَة بإعْجاب المُستعمَر بالمُستعمِر.. كما وقف عليها ابن خلدون، في خلاصاته التاريخية. ومع المغرب عقدة الحقد عليه تتورم أكثر لديها، كلما تعذرت عليها ملاحقته، فهو لديها المثال وهو المحال. وتلك “العقيدة” على منوالها تنسج الدبلوماسية الجزائرية إزاء فرنسا، تخطُب ودّها، وإزاء المغرب تخبِط بِحِقدها.
آخر خَبطات عصابة الحكم في الجزائر في “شَعْنَنَته” ضد المغرب.. أحد “المُتَكَسِّبة” بالصُّراخ ضدَّ بلده، زعَموا أنه جُندي، وقوَّلوه عن المغرب ما يصدق عليهم وما لا دأبوا عليه بينهم من دسائس وتحارُب، ومالا يتَّصل قطعا بالجيش المغربي، والذي يلحمه الولاء للملك، تُغذِّيه وطنيتُه وتمنعُه الاحترافية، ولجوء إعلام ودبلوماسية عصابة الحكم في الجزائر إلى ذلك المُتسوّل بالسّخافات والتُّرُّهات ضد بلده، هو التعبير الواضح عن عَمَى الحقد لديها، وهي التي جربت قبله شِرذِمة من مُرْتزقة التّحامل على بلادهم، وما أجْداها ذلك في شيء، بل وما أصابت إلا من نَتَانَتهم. وها هي تُعوِّضهم بعوَاء نكرة، يملأ الدولار بطنه ولا ينفعه في التخلص من صِنانه، العصابة “تحْطِب ليلا”، والحاقد ليلُه دامس وطويل، ويمتصّ ضوء نهاراته.
لا يتوقع أن تمارس الجزائر ضغطا في مجلس الأمن، وهي عضو غير دائم، متخلصة من عقدتها المغربية.. ربما ضيق مجال تحركها في ذلك الموقع سيُؤجِّج حقدها ضد المغرب. في ذلك “المجلس” لن تتمكن من زعزعة القناعة الدولية في مُقاربة الملف المغربي، من جهة قضيته الوطنية.. هي قناعة مَنيعة بالقرارات الأممية المتتالية، والتي رسّخت مضمون مقترح الحكم الذاتي المغربي مرجعا عليه إجماع، ولن تستطيع المُشاغبات الجزائرية الخَدْش فيها. وعلاقات المغرب مع الدول النافذة، في المجلس، والمالكة لقوّة الفيتو، هي ما بين طبيعية، معقولة، حسنة إلى جيدة. على عكس علاقات قيادة الجزائر معها، هي ما بين مقبولة محدودة وسيئة. وآذان تلك الدول لم ينفذ إليها الصوت الجزائري لسنوات، فكيف تُنْصِت إليه أو تأخُذ بضجيجه اليوم. والمخزون الشّعاراتي لقيادة الجزائر نفد وكشفت فراغه الوقائعُ على الأرض. وعلى عكس ادِّعاءاتها، دخلت بمفعول سلبي في “لمّ الشمل العربي”، في توتُّرات منطقة الساحل والصحراء، في النزاع الليبي.. واللائحة طويلة. الحِقْد ضدّ المغرب يشُل فعاليتها. ووجودُها في مجلس الأمن كعدمه.. “ستفوز”، فقط، في تداولات المجلس، بأفضلية إلقاء كلمات مُناسباتية، لا منْفَذ لها إلى آلية القرار.
الأرجح أن ماكرون لا يرى ضرورة الاستعجال في لقاء السيد تبون في باريس. ما تريده باريس من الجزائر تحقق، أو قيْد التحقُّق. وإذا ما وجد الرئيس له فاصلا في برمجة أنشطته لهذا الأسبوع، فسيكون لمجرد المُجاملة، والتي هي بطعم “سحابة صيف” عابرة، ولا يُرْجى منْها تخْصيب العلاقات الفرنسية – الجزائرية، الغائرة بالجروح والعميقة النُّدوب. وحتى تلك المجاملة تبْخَل بها الدولة الفرنسية على حُكّام الجزائر، وتَراهُم غير جديرين بها. ليس لديها عندهم ما ينفعها، اليوم.. ربّما إلى حين أن تتخلص من دائها.