قال الفيلسوف جان جاك روسو:
“الوطن هو المكان الذي لا يبلغ فيه مواطن من الثراء ما يجعله قادراً على شراء مواطن آخر. ولا يبلغ فيه مواطن من الفقر ما يجعله مضطراً أن يبيع نفسه أو كرامته”
ارتأيت أن أستهل مقالي هذا الذي سبق لجريدتنا الغراء الاتحاد الاشتراكي أن قامت بنشره مشكورة منتصف السنة الفارطة بالمقولة الشهيرة للفيلسوف العظيم جان جاك روسو. ويبدو لي أن موضوع المقال يستلهم مضمونه من روح مقولة روسو ويعتبر في نظري المتواضع ذو راهنية في سياق ما تعيشه بلادنا من ارتفاع غير مسبوق للأسعار مما تسبب في توسيع دائرة الفقر وأضحت تداعياته تهدد الطبقة الوسطى بالانقراض حسب تقرير المندوب السامي للتخطيط بل وتضع البلاد برمتها في منطقة الزوابع. لذا يسعدني أن أعيد نشر المقال المومإ إليه مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة.
تعرف كلفة المعيشة في ظل حكومة الملياردير أخنوش المنبثقة عن انتخابات 8 شتنبر 2021، أعلى درجات الارتفاع، بسبب إطلاق العنان للأسعار بدون حسيب ولا رقيب ودون أن تتوفر الحكومة المسؤولة عن تدبير شؤون البلاد، سواء على المدى المنظور أو على المدى البعيد، على بديل أو خطة أو برنامج يتضمن تدابير وإجراءات اقتصادية واجتماعية عاجلة قادرة على تطويق تداعيات الأزمة والتحرر من انعكاساتها السلبية. وفي مقابل هذا العجز اهتدت حكومة أخنوش لمواجهة ارتفاع فاتورة المحروقات، وما ترتب عنها من رفع لأسعار المواد الغذائية والمواد ذات الاستهلاك الواسع لدى معظم فئات الشعب المغربي، إلى انتهاج سياسة تبريرية تنم عن نوع من الانهزامية في مواجهة الأزمة وعن ضعف كبير في ملكة الابتكار والإبداع لإيجاد الحلول المناسبة، حيث أصبحت أمام هذا الضعف المهول والعجز التام تعول على ما يمكن أن ينقذها من الورطة من قبيل المراهنة على وصفات الدوائر المالية العالمية كما كان عليه الحال إبان سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وكذلك المراهنة على المبادرات الملكية لحل الأزمة. فعوض أن تستغل الحكومة ما يتيحه لها دستور 2011 من إمكانيات اتخاذ المبادرات والقرارات الجريئة بنوع من الإبداع والابتكار والشجاعة وتحمل المسؤولية، وهي الإمكانيات التي لم تكن متاحة في عهد حكومة التناوب للمجاهد الراحل عبد الرحمان اليوسفي، والتي واجهت ضغوطات جيوب مقاومة التغيير ومخلفات عقود من التدبير الكارثي للحكومات السابقة بشجاعة وحنكة وتبصر، أقول عوض أن تستغل هذه الحكومة صلاحياتها الواسعة أصبحت تختبئ وراء ربط الأزمة بعوامل خارجية مثل الحرب الروسية الأوكرانية وتداعيات جائحة كوفيد ومخلفات الجفاف وغيرها من التبريرات، وكأن الدور الموكول لهذه الحكومة يقتصر على إدارة شؤون البلاد فقط في أوقات الرخاء والازدهار، أما في أوقات الأزمات ف «الله غالب» كما رد أخنوش على انتقادات المعارضة وموجة استياء الشعب.
إنني أعتبر والحالة هذه أن تحالف الأحزاب المشكلة للحكومة الحالية قد فشل فشلا كبيرا في تدبير شؤون البلاد وخالف وعوده، لأن هذا التدبير القاصر لم يقدم حلولا لأزمة الغلاء ولا لمعضلة التعليم ولا لمعضلة البطالة ولا لمعضلة الفقر والهشاشة ولا لمعضلة الفساد ولا لمعضلة ضعف الثقة في مؤسسات الدولة من حكومة وبرلمان ومجالس منتخبة، وكلها ملفات وقضايا تضمنتها برامج التحالف الحكومي الحالي وتغنت بها أحزابه أثناء الحملة الانتخابية، لكن دون التزام سياسي ووفاء أخلاقي بالانكباب على معالجتها على أرض الواقع.
إن السؤال العريض الذي يجب طرحه اليوم، بكل شجاعة ووضوح، هو: هل الأغلبية المريحة التي تتربع على سدتها حكومة أخنوش هي أغلبية حقيقية تعكس حقيقة الخريطة السياسية في بلادنا وفق المعايير الديمقراطية الموضوعية المتعارف عليها كونيا، والتي تؤسس لفرز كفاءات ذات خبرة ومصداقية في تدبير الشأن العام؟
إنني أشك في ذلك، وحجتي هو واقع الحال الذي يفضح العجز الذي أبانت عنه الحكومة في مواجهة معضلة الغلاء ومواجهة تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في بلادنا. إن الشعب المغربي قد انتظر من أحزاب الأغلبية الحاكمة المنبثقة عن انتخابات 8 شتنبر فرز نخب مشهود لها بالكفاءة ومتملكة لرؤى سياسية وبرامج حقيقية قابلة للإنجاز على أرض الواقع وقادرة على تحقيق الأهداف والغايات في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحقوقية والثقافية، لا حكومة عاجزة وفاقدة للشجاعة والجرأة في بلورة الحلول المناسبة لمعالجة الأزمة وتداعياتها.
إن الشعور بالإحباط والتذمر قد عم كل المواطنات والمواطنين بسبب سلوك حكومة أخنوش التي عملت أحزابها في بادئ الأمر على فتح أبواب الترشيحات للانتخابات السابقة لأصحاب «الشكارة» ضمانا للفوز بأكبر عدد من المقاعد، حيث تحولت العملية الانتخابية من التباري حول الاختيارات والبرامج وحول أجود النخب، إلى معركة تدور رحاها بين مالكي الثروة، حيث أضحى المال السايب هو المحدد الوحيد للفوز بأكبر عدد من الأصوات والمقاعد. وهي ثقافة تكرست في نظامنا الانتخابي خلال الانتخابات السابقة من طرف أحزاب التحالف الحكومي حيث أصبحت تشكل عائقا وسدا منيعا في وجه الكفاءات الوطنية النزيهة التي تنبت في مشاتل الأحزاب الوطنية الديمقراطية. فأمام تسيد سلطة المال غابت الشفافية والصرامة في تطبيق القوانين الانتخابية وقواعد السلوك المدني والأخلاقي. فالجميع يتسائل اليوم عن غياب تطبيق البند القانوني المتعلق بمنع تجاوز سقف معين من المصاريف أثناء الحملة الانتخابية. والجميع يتسائل عن سلبية السلطة في مواجهة تدفق ورواج الأموال التي كانت الحاسم في رسم الخريطة السياسية الراهنة.
أمام هذا الواقع الذي لا يرتفع، لا يمكننا أن ننتظر سوى الفشل من حكومة لا تستند إلى رؤى وبرامج حقيقية ولا تمتلك أغلبية برلمانية مكونة في معظمها من كفاءات سياسية متمرسة ومؤمنة بدورها في قيادة المجتمع ومحترمة لسلطة الشعب ولإرادته وطموحاته في الإصلاح والنماء وحل الأزمات وليس تبريرها والاختباء وراءها.
إن بلادنا اليوم في حاجة إلى حكومة منبثقة من أحزاب وطنية ديمقراطية حقيقية وقوية، لأن أحزاب «الكوكوت مينوت» أو الأحزاب التي ولدت أصلا لتمييع المشهد السياسي والتضييق على الأحزاب الحقيقية تعتبر جزءا من الأزمة السياسية ولا يمكنها بالتالي أن تكون جزءا من حل هذه الأزمة. إن بلادنا في حاجة ماسة إلى توفير الشروط اللازمة لفرز نخب سياسية قادرة فعلا على تقديم الحلول، وليس تكريس الأزمة وتعميقها وتبريرها. إن بلادنا اليوم في حاجة إلى إعادة الاعتبار لمضمون الديمقراطية الحقيقية ولدولة الحق والقانون وللديمقراطية التشاركية ولنبذ كل أشكال الهيمنة والاستبداد السياسي لأغلبيات مصطنعة لا تعكس الخريطة السياسية الحقيقية بمختلف تعبيراتها وامتداداتها المجتمعية، ولا تعبر فعلا عن اختيارات وطموحات وانتظارات الأغلبية الساحقة من الشعب المغربي.
لذلك، فإنني كفاعل سياسي وحقوقي أدعو من هذا المنبر إلى :
أولا: انفتاح الحكومة الحالية على المعارضة السياسية وعلى المجتمع المدني والإنصات إلى نبضهما في إطار الديمقراطية التشاركية الفعلية والحرص على تمكين المعارضة من حقوقها الدستورية الكاملة ومن أدوات العمل كمكون أساسي من مكونات المشهد السياسي ودعامة حقيقية للديمقراطية.
ثانيا: الانكباب على إصلاح حقيقي لمنظومة الانتخابات يضع نصب أعينه معالجة الاختلالات والنواقص التي تمس قواعد الشفافية والنزاهة وعمق وجوهر الديمقراطية في بلادنا، إصلاحا يمكن الكفاءات الوطنية الديمقراطية من الوصول إلى مراكز القرار السياسي.
ثالثا: التخلي عن سياسة اللامبالاة أو استعمال العصا الغليظة لمواجهة الاحتجاجات الشعبية ضد الغلاء.
وأختم بقولة شهيرة أو شعار كنا نردده في المعارضة الاتحادية حين كنا نواجه الاستبداد وأحزابه الإدارية: « إذا شعرتوا بالهزيمة أعطيوا للشعب الكلمة».