“من خلال تجربة الأستاذ أحمد أبادرين”
تسعى هذه الورقة إلى إبراز والبرهنة على أن المزاوجة بين النضال الحقوقي والانهمام بالشأن العام السياسي منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي ، تخلق عنه جيل جديد من المناضلين الديمقراطيين، اشتبكوا مع تجربة المسلسل الديمقراطي لا لنقضها أو الدعوة إلى رفضها مع الاستعاضة عنها ببدائل أخرى مما كانت تعج به الساحة السياسية المغربية .. ولكن لمساءلتها على ضوء مبادئها نفسها المفترضة من حرية وسيادة الشعب ونزاهة الانتخابات واستقلال القضاء.. وغير ذلك مما يقتضيه بناء دولة الحق والقانون .
فما هي إذن السياقات التي أطرت نشأة هكذا جيل ؟ ثم ما أبرز التيمات التي اشتغل عليها ؟ وكيف كان أسلوبه في العمل ؟ وماذا كانت حصيلة هذا الجهد النضالي المجدد ؟
قبل محاولة التماس بعض عناصر الجواب عن الأسئلة المذكورة أريد التنبيه إلى أني أعتمد أسلوب النمذجة Typologie في الربط بين الفرد و التيار الفكري /السياسي من خلال تلمس معالم الإشكالية العامة المشتركة أي مجموع الأسئلة والقضايا التي شغلتهم وحاولوا الإجابة عنها بطرق مختلفة ، وهي طريقة مستلهمة من عمل الأستاذ عبدالله العروي في ” الأيديولوجية العربية المعاصرة ” إذ مثّل للمدرسة السلفية ،على كثرة رموزها ،بالشيخ محمد عبده لا لأنه أجدرهم بالتمثيل ولكن لأن كتاباته تمكن من الإحاطة بالإشكالية المطروقة والأمر نفسه ينطبق على ذ/ أبادرين ومجايليه من المناضلين الحقوقيين ( المقصود الجيل الإشكالي لا العمري) شأن النقباء عبدالهادي القباب ،عبدالرحيم الجامعي ،عبدالرحمان بن عمر، الراحل عبدالرحيم برادة ،عائشة الرياضي .. وغيرهم كثير ممن جادت بهم الساحة النضالية الحقوقية ، ذلك لأن كتاباته سواء ما تعلق منها بالسيرة الذاتية أو المتابعة النقدية لمحطات من تطور المسلسل الديمقراطي أو القضائي توفر المادة الضرورية لتتبع وتفهم مسار تشكل هذا الجيل المجدد في تجربة النضال الديمقراطي .
وإذن فالتركيز في هذه الورقة على التجربة الخاصة بالأستاذ أبا درين الذي اقتضته فرصة المشاركة في تكريمه لا ينبغي أن يخفي أنه من قبيل التركيز على الخاص المشترك بين تيار بأكمله وإن تعددت أشكال التعبير عنه .
تقدم “الخرصة “،و هو عنوان السيرة الذاتية للمحتفى به ، شذرات على سبيل التداعي الحر للذاكرة تشي بالمعالم العامة للتنشئة التي تربى عليها .. و يقع في القلب منها تلك الرابطة الاستثنائية و المميزة التي كانت تشده إلى والده السي ابراهيم الفقيه – بالمعنى القديم للكلمة – ولعلها كانت( =الرابطة ) الجذر العاطفي /النفسي الذي تطور فيما بعد إلى إنسية أمازيعية Un humanisme Amazigh قادت صاحبنا إلى المشاركة بل وتزّعم إلى جانب رفاقه في الحركة الأمازيغية النضال من أجل الاعتراف بالحقوق الثقافية واللغوية للأمازيغ وتكريسها دستوريا .
ثمة شذرة ثانية تبرز الطريقة التي تم بها توجيه سكان الدوار إلى التصويت بنعم على دستور 1962 إذ طلب السي ابراهيم بصفته فقيه الدوار من الشيخ ، الذي هو عون وزارة الداخلية للاتصال المباشر مع المواطنين ، أن يفصح للسكان عن لون ورقة التصويت الذي يريده المخزن .. في إشارة إلى تجديد وضع الرعية – Statut des sujets في علاقتها بالسلطة السياسية لكن بتقنيات ليبرالية ..
على أن هيمنة ” الآداب السلطانية ” تلك ، لم تمنع حدوث انعطافة أولية لدى صاحب السيرة عندما نهر أباه عن تقديم “الحلاوة” بمناسبة الحصول على رسم الولادة ومعه الدفتر العائلي كما جرت به العادة ، مما يعني بداية تشكل ممانعة نفسية للثقافة السياسية المتفشية و هو مسار سيتطور في اتجاه تعزيز بناء الأنا بالاعتماد على الذات في توفير دخل وتحدي ظروف الفقر وتوج بالإصرار البطولي لتحقيق حلم التسجيل بالمدرسة العمومية رغم صعاب التدافع بين الراغبين في التسجيل من ذوي البنيات الجسدية القوية ..وكان تعلقه المستميت بخرصة باب المدرسة ليس فقط امتحانا لتأكيد الذات بل أيضا إصرارا على اقتحام عتبة فضاء اجتماعي جديد لم تتضح معالمه بعد .. ولذلك كان الأستاذ أبادرين موفقا في اختيار ” الخرصة” عنوانا لسيرته الذاتية إذ كانت الخطوة الأولى على طريق التحاقه بكلية الحقوق بالرباط حيث ستختمر مكونات تحولاته اللاحقة – Métamorphoses ، علما أنه ولغاية دراسته بدار البارود أي السلك الثانوي لم يستسغ بل” وأصيب بدوار”حسب تعبيره عندما اكتشف أن أصدقائه الذين أعارهم غرفته في أحد أيام رمضان .. قد تركوا فوق المائدة معالم تدل على إفطارهم نهارا …
والحق ، لئن كانت مؤشرات التفلت التدريجي عن السمت الأيديولوجي /الثقافي الموروث بدأت تظهر منذ التحاقه بالثانوية ومشاركته أصدقاء جاءوا من تارودانت في مناقشة مواضيع دينية أو بعض الندوات المنظمة من قبل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية آنئذ إلا أن المنعطف الحاسم في تشكل وعيه الأيديولوجي/السياسي قد بدأ مع التحاقه بكلية الحقوق بالرباط التي كانت قلعة لنضال الحركة الطلابية ومشاركته في فعاليات المؤتمر 15 لأوطم من خلال العضوية في لجنة التعليم ، وهي محطة كرست هيمنة حركة الطلبة الجبهويين بما طرحته من قضايا سياسية وأيديولوجية مستجدة وما حفزته أيضا من تطلعات ثورية لدى لشبيبة الطلابية في زمن سياسي اتسم بالغليان وعدم الاستقرار إذ شهد محاولتي انقلاب عسكري في مدى زمني قياسي ..وما ترتب عن كل ذلك من انطلاق حملات قمع شرسة أخضع فيها المناضلون من مختلف التنظيمات لكل ألوان التعذيب الوحشي والمعاملات الحاطة من الكرامة الإنسانية بل والاختفاء وتوجت بمحاكمات لم تراع فيها مبادئ العدالة وإن وزعت قرونا من السجون على المعتقلين … وهي معطيات اعترفت بها الدولة فيما بعد من خلال إقرارها بجبر ضرر المعتقلين ..
ليس القصد من تسجيل المعطيات السابقة الوقوف على التفاصيل الدقيقة للمرحلة المذكورة مع ما قد يترتب عن ذلك من نكأ لجروحها وإنما الهدف من استعادتها هو رسم ملامح الحاجة والضرورة الواقعية لتبلور إشكالية سياسية جديدة قوامها العمل على بناء دولة القانون تراعي الضمانات الحقوقية في التعامل مع المواطنين بمن فيهم المناضلين في أفق أن تتحول إلى دولة الحق والقانون ..
هذه الحاجة الواقعية التي كشفت عنها ظروف اعتقال ومحاكمات مناضلي اليسار بشكل عام كانت سبقتها ورافقتها تحولات في الرؤية السياسية ومبرراتها الفكرية /الأيديولوجية لدى قسم وازن من اليسار .. يتعلق الأمر أولا بالدعوة التاريخانية التي نظر لها الأستاذ عبدالله العروي خاصة في ” العرب والفكر التاريخي”
( 1973)وهو ترجمة لعمله السابق ” أزمة المثقفين العرب”- 1970- دعا فيه إلى ما أسماه ب “الماركسية الموضوعية ” التي تراعي الحاجات الفعلية الثقافية والسياسية لمجتمع التأخر التاريخي وليس تطلعات النخبة المثقفة /المسيسة مما قاده إلى اعتبار أن إشكالية المجتمع المغربي الحقيقية – وأمثاله من المجتمعات- هي كيف يستلهم الوعي الليبرالي قبل وبدون أن يعيش مرحلة ليبرالية وهي إشكالية تقاطعت وتزامنت مع كتابات أخرى لمفكرين عرب كياسين الحافظ في ” الهزيمة والأيديولوجية المهزومة” وبرهان غليون في ” بيان من أجل الديمقراطية ” .. هذه المكتسبات الفكرية ترجمها المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية – الذي سيتحول إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية – من خلال تقريره الأيديولوجي الذي تضمن في مقدمته كلمة للراحل عمر بن جلون دعا فيها صراحة إلى تجاوز شعار دكتاتورية البروليتاريا – أي الخيار الثوري – الذي ” أكل عليه الدهر وشرب في دياره ” والعبارة هنا للراحل تلميحا إلى مخرجات مؤتمر الحزب الشيوعي الفرنسي لسنة 1974 حيث تخلى عن شعار دكتاورية البروليتاريا واعتمد النضال الديمقراطي خيارا سياسيا استراتيجيا ..
هذا التوجه نحو النضال الديمقراطي كرسه أيضا ونظر له قسم كبير من مناضلي منظمة 23 مارس سواء داخل السجون أو بالمنافي وتوج باجتراح شعار دمقرطة الدولة والمجتمع بما يعكس ضرورة العمل أيضا على التحديث الثقافي للشعب بالموازاة مع دمقرطة نظام الدولة .. مسار توج بميلاد منظمة العمل الديمقراطي الشعبي … وكان سبقه استعادة الحركة النقابية للمبادرة النضالية من خلال تأسيس ك دش و بداية تبلور حركة حقوقية أعلنت عن نفسها من خلال تأسيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان التي أخذت على عاتقها فضح الخروقات الحقوقية و القانونية التي تمارسها السلطة العامة والمساهمة في توفير شروط المحاكمة العادلة للمواطنين مع نشر ثقافة حقوق الإنسان .
تلك كانت بإجمال معالم السياق التاريخي الذي تخلقت ضمنه إنتلجنسيا حقوقية لم تكتف بالحث على احترام حقوق الإنسان بالكتابة والتأليف شأن المثقفين بل اشتبكت وانخرطت عمليا في مجابهة الخروقات ومؤازرة ضحاياها عبر العمل الجمعوي ساعدها في ذلك امتهان أغلب رموزها للمحاماة ، رافعة الدفاع عن الحقوق والحريات .
والحق أن ذ أبادرين كان مدركا لهذا التحول في هويته المهنية – ليس محاميا فقط وإنما أيضا انتلجنسيا حقوقية – على ما يستفاد من مقدمته لكتيبه ” إني بريء” وهي صياغة بمفهوم المخالفة لعريضة إميل زولا الموسومة ب ” إني أتهم ” إذ استهل مؤلفه ذاك بالتذكير بماجريات قضية الضابط الفرنسي دريفوس الذي أدين من أجل الخيانة العظمى لتسريبه المزعوم معلومات عسكرية خطيا إلى الألمان وانتصب زولا مطالبا بإعادة محاكمته لشبهات عديدة طاولت التحقيق و كلفه ذلك إدانته قضائيا …
وللتذكير اعتبرت الحادثة المذكورة منطلقا للتأريخ لظهور الإنتلجنسيا بالمفهوم الليبرالي والتي تكررت برؤية أخرى في التجربتين الروسية والإيطالية .
( يراجع Michel Winock : Le siècle des intellectuels ed seuil 1999 خاصة الجزء الأول ) .
هكذا وبالإضافة إلى مؤازرة المعتقلين لأسباب سياسية أو نقابية أو للتعبير عن رأيهم بحرية ، شأن معتقلي الحركة الطلابية مطلع الثمانينيات ، والنوبير الأموي وتقديم الدعم القانوني/القضائي لضحايا خروقات حقوق الإنسان بمختلف أشكالها – تضمن كتيب “إني برئ” نموذجا عنها إذ تم إفراغ مالكي بيت من المهاجرين بسيدي يوسف بن علي دون تمكينهم من حق الدفاع عن أنفسهم ..- استمر ذ أبادرين في المتابعة النقدية لمحطات من المسلسل الديمقراطي من خلال مقالات صحفية أو مداخلات بمناسبات مختلفة – جمعها في كتابه ” عن الديمقراطية وحقوق الإنسان “) .. غطت مواضيع الإصلاح الدستوري في علاقته بالمسألة الامازيغية , والإصلاح القضائي والمطالبة بإلغاء مقتضيات الفصل 25 من ق م م وإنشاء محاكم للبت في الطعون الموجهة ضد قرارات السلطة المشتطة أوغير الدستورية ونزاهة الانتخابات مع مناصرة حق الأفراد المستقلين في الترشح للانتخابات وعدم إلزامهم بتقديم تزكية حزب ، و الدفاع عن الحق في التظاهر السلمي إلى غير ذلك من المواضيع التي تواكب تطلعات الحاجة إلى الانتقال الديمقراطي ..
وبالمجمل فإن المقالات المنشورة بالكتاب المذكور تقوم على منهجية كشف مفارقات السلطة العامة وتحديدا وزارة الداخلية /الحزب السري بين ما تقوم به وما تصدره من قوانين ومراسيم وبين ما تقتضيه المواثيق الدولية التي صادق عليه المغرب شأن الميثاق العالمي للحقوق الإنسان ..
ومن جهة ثانية تنتهي جميع المقالات الصحفية المذكورة بعبارة “ما رأيكم ” في إشارة إلى أن الكاتب يطرح رأيه بصفته مواطنا من حقه تكوين رأي والتعبير عنه بشأن المواضيع المطروقة .. و دون وساطة إطار حزبي بالضرورة وهو ما يعني أنه بقي وفيا لموقفه الداعي إلى الفصل بين الحقوقي والحزبي والذي كان في أصل استقالته عن الجمعية المغربية وتأسيس إطار حقوقي جديد لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان …
بصرف النظر عن المكتسبات الحقوقية التي تحققت بعد اختمار طويل تسارع مع انبثاق حركة 20 فبراير إلا أن تجربة النضال الحقوقي بأفق المساهمة في إنجاز الانتقال الديمقراطي لا زال عليها أن تراجع مواقفها بشأن نقطتين رئيسيتين أولهما تتعلق بضرورة التمييز بين تبعية الحقوقي للحزبي .. وبين مشاركته وانخراطه الفعلي في إشكالية الانتقال الديمقراطي وهو انخراط لا يبقى معه أي مبرر لدعوة الحياد ..
أما النقطة الثانية فتتعلق بمحدودية تأثير العمل الحقوقي الذي لا يستند إلى إرث ثقافي أنواري .. ذلك أن حقوق الانسان وما يرتبط بها من مواضيع هي بمثابة تكنولوجيا تطبيقية لفلسفة الأنوار ..والسؤال هو هل يجب أقلمة حقوق الانسان مع الثقافات الوطنية .. أم لا بد من إبداع أنوارنا أو استيرداها مؤقتا .
*ورقة شاركت في الحفل التكريمي الذي نظم على شرف أذ أحمد أبادرين السبت 24 دجنبر 2022 بمراكش