ـ حول الهدنة/وقف إطلاق النار بين الاحتلال الاسرائيلي والمقاومة الفلسطينية ـ
لعل المتتبع لماجاريات الصراع الدامي والأليم بين المقاومة الفلسطسينية وجيش الاحتلال الاسرائيلي ، لاحظ انه رغم سكون ميزان القوى بين الطرفين عند معادلة ” القدرة الفائقة على تدمير البيوت والفتك بالمدنيين ” لفائدة الطرف الأول .. والقدرة على استنزاف جيش الاحتلال ومنعه من السيطرة على الأرض بالنسبة للمقاومة ..وهو ما يعني استحالة الحسم العسكري للنزاع وبالتالي حاجة الطرفين معا إلى استعمال الوسائل غير النارية في الصراع ..إلا أن كل منهما يريد انتزاع اعتراف الآخر بغلبته أو القدرة على المجابهة و الاستعصاء على التدمير العسكري..وهو ما عكسه الصراع على أولويات مقترحات التفاوض بالوساطة … بين إطلاق ” المحتجزين ” والقبول ببقاء قوات الاحتلال بالقطاع بثمن هدنة مؤقتة ( = الرؤية الصهيونية ) وبين إقرار موقف إطلاق النار متدرج مع تبادل للأسرى وفق معادلة “شليط “في أفق جلاء الاحتلال عن غزة ورفع الحصار وإعادة الإعمار بما يساعد على إعادة طرح أجندة الدولة الفلسطينية على بساط التفاوض ( رؤية المقاومة ) .
إن حدة التناقض في تصور برنامج التفاوض بين الطرفين تشير إلى أن الفاعل العسكري /المقاوم هو من يتفاوض .. وأن الفاعل السياسي الموسوم بالقدرة على التسوية لا زال ينتظر لحظة انخراطه في الحرب بالوسائل غير النارية – حسب تعبير كلاوزوفيتش – . فهل الحرب على موعد قريب مع تسوية سياسية ام هي ذاهبة إلى إيقاع الحسم حتى ولو كان غير منظور ؟
الظاهر أن كلا الطرفين عبّأ واستخدم كل قواه ” الذاتية” العسكرية التقليدية المتوفرة خلال الفترة الماضية من الحرب التي تقترب من إتمام شهرها السادس وبالتالي فالتحول في ميزان القوى لا يمكن أن يأتي إلا من خارجهما و من محيطهما .
إسرائيل في أمس الحاجة إلى التغذي من حلفها العضوي مع رموز الهيمنة الغربية على الشرق الأوسط وأدواتها المحلية . والأمر نفسه بالنسبة للمقاومة الفلسطينية التي من حقها التطلع إلى دعم عمقها القومي والإنساني يوازي أو على الأقل يقترب مما قدّمته من تضحيات مشرفة وحاسمة ..
لقد أثارني ما فسّر به إيمانويل طود – في كتابه “La défaite de l ‘occident” الصادر عن كاليمار 2024 .. تعاطف الشباب الأمريكي والغربي عموما مع الشعب الفلسطيني .. لقد عزا ذلك إلى تآكل الحسّ البروتستانتي والمسيحي عموما فيما يشبه عدمية دينية أو حالة Zombie دينية – أي حالة دينية سطحية غير مؤثرة – وهو ما أفقد الاحتلال الإسرائيلي الدعم الهائل للصهيونية المسيحية .. خاصة لدى الشباب بين 18 و 30 سنة بفعل الدّهرنة المفرطة المرافقة لليبرالية المتوحشة – تقديس الثراء بدون إنتاج حقيقي للثروة- .. وجعله ينظر إلى الصراع من موقف إنساني /حقوقي .. ويزيد من فاعلية هذا العامل في ميزان القوى ، تقاطعه مع الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة .. إذ يعتقد ان إيقاع التحول لدى الرأي العام الشبابي الأمريكي من شأنه أن يفضي إلى خسارة الرئيس بايدن للإنتخابات .. وهي نتيجة يحبذها نتنياهو ولربما يرهن مستقبله السياسي على تحققها إذ سيستعيد من خلال ترامب دعم المسيحية الصهيونية لإسرائيل .. هذه الوضعية تجعل بايدن رهينة لابتزاز نتنياهو وحاجته إلى مسايرته عسكريا وسياسيا .
اندلاع ” طوفان الأقصى ” خلال زمن الاشتباك العسكري بين روسيا وحلف الناتو .. لئن تقاطع موضوعيا مع اتجاه تصدّع الهيمنة الغربية على العالم – وفي القلب منه الشرق الأوسط – في أفق عالم متعدد الأقطاب إلا أنه ليس من المطلوب بل ومن الخطأ الاستراتيجي أن تربط المقاومة الفلسطينية مستقبلها السياسي بالتحقق الفعلي لهذا التحوّل .. إن ذلك وفّر المبرر للحكومات الغربية للدعم السخي ّعسكريا وماليا لحكومة الاحتلال الإسرائيلي .. لضمان استمرار هيمنتها على العالم .. يجب التحرك أساسا ضمن الأفق الذي دشنته الشكاية التي قدّمتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية ..إذ حل ّالقضية الفلسطينية متاح ضمن الشرعية الدولية القائمة .. ولا تحتاج بالضرورة وقبل كل شيء إلى تغيّر موازين العالم .. وحصوله ( = التغيّر ) سيحسن من وضعية الفاعل الفلسطيني المستقل ولا ينشئه ابتداء .
يوّفر العمق القومي /الإسلامي للمقاومة الفلسطينية شكلين من الدعم ..الأول عسكري يلخصه شعار “وحدة الساحات ” وهو في جوهره إرادة هيمنة طائفية تجد في مناصرة القضية الفلسطينية مسوّغا ومبررا لمشروعها ..ومعلوم أن من دوّخه الجوع يبحث بدءا عن سدّ الرمق بما توفّر . أما الدعم الثاني فهو بالمجمل ذي طابع سياسي تؤشر عليه الاحتجاجات بالشارع العربي وتبوّء قطر ومصر التفاوض باسم المقاومة الفلسطينية ..
هذا الدعم قاصر استراتيجيا لسبببين : الأول أن بنية النظام السياسي العربي الاستبدادية والتسلطية لا تسمح للموقف الشعبي بالتسرب إلى صانع القرار السياسي . والثاني يتمثل في أن قطر ومصر تتفاوض تحت السلطة الأمريكية وبما يرضيها .. وهو ما يفقدها الفعالية اللازمة .
النظام العربي الرسمي على المحك : إما أن يستعيد القضية الفلسطينة ضمن أجندته للاستقرار السياسي وهذا يقتضي منه على الأقل وقف التطبيع وتجميد اتفاقيات السلام الموقعة مع الاحتلال إلى حين انطلاق قطار الدولة الفلسطينية المستقلة على السكة .. وإما الخضوع إلى هيمنة ثانية -إيرانية – تضاف إلى السيطرة الإسرائلية .. لكن هل يستطيع لحم جامعة الدول العربية تحمل هذا النهش المضاعف ؟