بعد إضراب تعليمي هو الأطول في تاريخ الحركة الاحتجاجية بالمغرب، إذا استثنينا إضرابات عمالية محدودة، قادته وعبأت له تنسيقيات فئوية وحدها مؤقتا شعار إسقاط قانون أساسي ، وصف بالمجحف والمأساوي، يمكن تناول هذا الإضراب ” التاريخي” بالتحليل قصد الكشف عن الأسباب العميقة لهبة تعليمية لم تكن منتظرة، والوقوف على دلالاتها الاجتماعية والثقافية وأبعادها السياسية المتخفية.
أول ما يثير الانتباه، الزخم العالي الذي طبع الحركة الاحتجاجية، التي شلت فعلا قطاعا حيويا لشهور، بحيث عمت المغرب قاطبة وبنسبة عالية تقارب الإجماع، شاركت فيها كل فئات نساء التعليم ورجاله، وكان حضور المرأة والفئات الشابة وازنا وملفتا للمراقبين.
إن الاستجابة الواسعة والعملية للدعوة للإضراب يعكس مدى تذمر رجال ونساء التربية والتعليم، لما آلت إليه أوضاعهم المادية والاجتماعية جراء تجميد الأجور مقابل الغلاء الفاحش، الذي شهده المغرب في العقدين الأخيرين، ولا سيما بعد جائحة كوفيد 19. وبالتالي فإن النظام الأساسي المرفوض، لم يكن في الواقع سوى النقطة التي أفاضت كأسا من شعور جماعي بالاقصاء الاجتماعي، الذي طال الطبقة المتوسطة بالمغرب، وجعل فئات واسعة منها أقرب إلى دوائر الفقر والحرمان. ومن المؤكد أن رجال التعليم ونسائه من الفئات المؤهلة، لاستشعار التدهور الذي حل بوضعها الاقتصادي والاجتماعي والرمزي، كما هي مؤهلة للدود عن كرامتها وممارسة حقها في التظاهر والاحتجاج.
لا يجب أن نعتبر الإضراب الطويل وغير المسبوق في تاريخ النضال التعليمي، احتجاجا على الحكومة وحدها وإنما هو أيضا تمرد واضح على النقابات التعليمية على اختلاف ولاءاتها السياسية، فالشعارات التي رفعت في المسيرات والوقفات، والتصريحات التي أدلى بها زعماء التنسيقيات لم تتوجه بخطاباتها الانتقادية ( وليست النقدية ) إلى الحكومة والوزارة الوصية وحدها، وإنما توجهت أيضا، وأحيانا بنوع من العنف والاتهام بالخيانة والانبطاح وغيرها من عبارات التبخيس، لنقابات أبانت عن عجز كبير في لعب دور الوساطة الموكول لها قانونا وعرفا، وفي ذلك دليل على عدم ثقة الجماهير التعليمية. بما فيها منخرطو النقابات أنفسهم في مؤسسات أضاعت كثيرا من جماهريتها، وبالتالي من شرعيتها. إنه الواقع العيني الذي لا يرتفع بغض النظر عن اسباب هذا الهزال وسياقاته.
ضعف النقابات التعليمية نتاج مسار طويل من التراجعات ومراكمة الاختلالات وتاريخ من الانشقاقات واعادة إنتاج البيروقراطية النقابية وسطو قيادات شائخة أحيانا، وانتهازية أحيانا أخرى، ولعل السعي وراء الريع النقابي و” تأميم” المكاتب النقابية محليا وجهويا من قبل بعض “الخالدين فيها” الذين استغنوا عن اشتراكات المناضلين، وعن لجان المؤسسات وعن الجموع العامة، وجعلوا من المكاتب المطبوخة في فضاءات النوادي وأرائك المقاهي، شبه وكالات لمعالجة ملفات شخصية وملفات ذوي القربى على اختلاف أصنافهم. طبعا، هذه الأحكام غير قابلة للتعميم ما دام هنالك نقابيون ونقابيات شرفاء ما زالوا وما زلن على العهد وفاء للمبادئ التأسيسية للفعل النقابي، التي ألهمت الرواد ومن سار على دربهم إلى الآن، وهم وهن مع الأسف قلة وفي طور الانقراض الطبيعي. إفلاس النقابات ” التاريخية” ترك فراغا أنتج بدائل غير مكتملة من بينها تنسيقيات تتشكل قاعدتها الأساسية من الأجيال الجديدة من المدرسين والمدرسات، إلى جانب فئات شملها حيف مادي ومعنوي جراء عدم التزام حكومات سابقة باتفاقات عديدة.
فكانت القطيعة بين نقابات تمرست على آليات العمل النقابي وقواعد الحوار الاجتماعي وتحكمها ارتباطات سياسية تحد من سقف مطالبها وتلجم اندفاعها النضالي، وتراعي بحكم تلك الارتباطات الظرفية الاقتصادية والسياسية الوطنية من جهة وتنسيقيات طارئة على الساحة النقابية تقودها زعامات يكشف خطابها عن توجهات سياسية غير معلنة تلتقي مع خطاب تيارات سياسية دعوية ويسراوية، تعتبر نفسها اكثر جذرية وتتجاوز غاياتها من ” الحراك” المطالب النقابية إلى إسقاط الحكومة ولم لا إسقاط النظام. ومما ساعد على تجذير الخطاب الاحتجاجي إبان المسيرات، وأحيانا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، السياق الوطني المتسم بسخط شعبي عارم إزاء الارتفاع الصاروخي للأسعار وعجز الحكومة عن كبح هذا الغول الذي ضاعف من مساحة الفقر والفقراء في وقت يعيش المترفون حياة باذخة في ظل استفحال الفساد على كافة المستويات.
هذه القطيعة بين نقابات ذات شرعية قانونية ومؤسساتية لكنها لا تأثير لها على دينامية الإضراب وتنسيقيات فاعلة ميدانيا لكنها تفتقد إلى ثقافة نقابية واقعية وبرغماتية وتحركها نزوعات ثورانية قطعية وتعاني من عقدة الاعتراف الرسمي بها، جعلت ( القطيعة) الحكومة في حيص بيص بخصوص استراتيجية التعامل مع الإضراب الذي طال اكثر من اللزوم وتحول فعلا إلى شبه عصيان بدت مخاطره في خروج آباء وخاصة أمهات التلاميذ في تظاهرات بمدن مختلفة، وسعي قطاعات اخرى مهيكلة وغير مهيكلة إلى تأسيس تنسيقيات على غرار التنسيقيات التعليمية التي اكتست جاذبية خاصة واضحت بديلا ممكنا للنقابات. فبقدر ما اتاح التنافس على الشرعية بين النقابات والتنسيقيات للحكومة هامشا للمناورة واللعب على الحبلين، وجدت الحكومة نفسها بين نارين بخصوص المحاور: هل تحاور النقابات الأكثر تمثيلية ضعف تأثيرها في مجرى الاحداث، أم تحاور التنسيقيات الرافعة لشعارات جذرية ومطالب الحد الأقصى والقادرة فعلا على حلحلة أزمة تزداد حدة يوما بعد يوم، وبعد ارتباك وتجريب كل الصيغ حسمت الحكومة ترددها باستكمال الحوار مع النقابات الخمس بما فيها الجامعة الوطنية/ التوجه الديموقراطي.
في مواجهة هذا الإضراب الطويل ابانت الحكومة عن ضعف وارتباك من تجلياتهما:
أولا: تجاهل الإضراب في أسابيعه الأولى واللجوء في البداية إلى تصريحات غير مسؤولة أحيانا وتافهة تدعو الى الشفقة احيانا اخرى، ثم الدعوة إلى الحوار مع نقابات اربع ثم مع التنسيقيات ثم مع النقابات الخمس، وفي ذات الوقت اللجوء إلى الاقتطاعات عملا بمبدأ “الأجر مقابل العمل”
ثانيا: القبول بتجميد القانون الأساسي بدل سحبه، وبغض النظر عن الدلالة القانونية لكلمة تجميد فإن الحكومة اعترفت ضمنيا بعدم صلاحية القانون الاساسي، وعبرت سياسيا، تحت الضغط، عن استعدادها لتجويده لدرجة تغييره جوهريا، وفي ذلك سحب عملي .
رغم ما انتهى اليه الحوار بين الحكومة والنقابات من نتائج اعتبرتها النقابات إيجابية وتاريخية ورأت فيها التنسيقيات مجرد فتات ومحاولة احتواء ل”الحراك” ، ما زالت الأزمة قائمة بحيث ان ما يقارب 50% من مجموع المدرسين ما زالوا خارج الفصول الدراسية، وبالتالي ما زال الوضع قابلا للتدهور، خاصة وأن الوزارة مرت إلى توقيف عدد من المضربين.
استنادا لهذه الملاحظات يمكن الاستنتاج: أن الإضراب بهذا الحجم والزخم والامتداد ليس وليد مطالب نقابية صرفة وإنما هو تعبير عن سخط عارم وعميق لشريحة اجتماعية هي اسرة التعليم برجالها ونسائها وبكل فئاتها، اتجاه سياسة حكومية بخصوص قطاع اجتماعي/ تربوي استراتيجي يعاني من اختلالات بنيوية شتى فشلت كل الإصلاحات في التخفيف منها. ومما لا شك فيه ان هذا السخط جزء من سخط شعبي إزاء السياسة العامة لحكومات تعاقبت على افقار الشعب. فضلا عن ذلك كشفت الازمة عن تآكل مصداقية مؤسسات الوساطة، فالنقابات الخمس وجدت نفسها عاجزة عن توجيه الأحداث، مما أضعف قدرتها التفاوضية، ويهدد في الحقيقة مستقبلها. تراجع دور النقابات التعليمية جزء من تراجع الحركة النقابية بالمغرب بسبب انشطاريتها وبيروقراطياتها القديمة والجديدة، وتبعيتها لأحزاب لم تسلم هي ذاتها من خمول وضعف وتماهي بثقافة السلطة ودواليبها المذلة للربح المشروع وغير المشروع.
واذا كانت النقابات فاقدة للمبادرة الفعالة، فإن استراتيجية الأرض المحروقة للتنسيقيات، التي يشتم من خطابات زعاماتها وشعارات بعض المتظاهرين والمتظاهرات توجها سياسيا عدميا ونفحة دعوية اسلاموية، لن تؤدي في نهاية المطاف، إلا إلى مواجهة مفتوحة مع الدولة التي ستجد نفسها أمام خيارين: نسخ مخرجات كل الاتفاقات مع النقابات وتقديم تنازلات كبرى للتنسيقيات، وهذا خيار يبدو صعب المنال لاعتبارات سياسية ومؤسساتية، أو التشبث بما اتفقت عليه مع النقابات واتخاذ إجراءات ” زجرية” اتجاه المضربين.
وفي كلتا الحالتين فإننا نجتاز وضعا معقدا يجب تجاوزه من خلال مسارين، مسار الإصلاح الشامل للمنظومة التربوية /التكوينية بمساهمة وازنة وحقيقية لكل الفاعلين التربويين، يتم في إطاره صياغة نظام اساسي جديد يتطابق مع النموذج التعليمي المأمول؛ ومسار إعادة بناء المشهد النقابي على أساس الديموقراطية التشاركية وبقيادات شابة مؤهلة للتفاعل الايجابي مع الأجيال الجديدة من رجال التعليم ونسائه، دون التنكر لما قدمته الاجيال السابقة والإطارات النقابية الحالية من تضحيات ومن تراث نضالي مجيد.