إذا كانت التعامل مع أحداث الحياة لعبة فإن 80 في المائة يعتمد على العامل النفسي في فهم أعماق النفس البشرية، ولا يتطلب ذلك بالضرورة أن يكون الفرد مختصا نفسيا أو خبيرا في الطب والصحة النفسية، بل فقط أن يدرك كيفية التعامل مع هذه النفس بمرونة وقدرة داخلية على مواجهة التحديات والضغوطات سواء أكانت من ذاته أو ممن الآخرين، لأن الفهم العميق لأغوار النفس وكيف تجنيد المعارف النفسية سبيل إلى تحسين ظروف الحياة وعيش لحظة الحضور بمزيد من الرضا والتوازن العام، فيما تبقى 20 في المائة من لعبة الحياة تتمحور حول التمكن من تطوير المهارات باعتبارها ادوات ووسائل ايجابية لإدارة النفس وتعزيز فهم كينونات الآخرين.
واعتبارا لكون الانسان في ذاته كائنا عاطفيا وانفعاليا فالمدخل إليه عن طريق المشاعر ألطف وأقوى سلاسة من طريق العقل والعقلانية، وإن بدا لعصر التنوير والحداثة أن العقل المجرد وراء كل الحقائق وهو وحده السيد، لكن هذه الشائعات فندها عدد كبير من المثقفين والفلاسفة والمفكرين من بينهم الفيلسوف الألماني هيغل والفيلسوف إيتيان بونوت دي كوندياك …الطبيب النفسي ستيفن بينكر وعالم العصاب سام هاريس … وغيرهم ممن رأوا أنه من باب العبثية اتباع ادعاءات حول ماض مجيد لم يكن في العمق موجودا بل كانت المواربة ومقص الرقابة الفرنسية بالمرصاد لكل ما هو عاطفي وانفعالي الذي تمظهر في العديد من الأجناس الأدبية والأنساق الفلسفية والمعرفية.
ومن اجل تحسين المعارف النفسية والوعي بالذات وبكوامن الآخر للوصول للعيش الطيب والرضا عن النفس، تأتي مركزية الاعتناء بالصحة النفسية باعتبارها حقا عالميا من حقوق الإنسان، وهو الشعار الذي رفعته منظمة الصحة العالمية لسنة 2023 للاحتفاء باليوم العالمي للصحة النفسية الذي يصادف 10 من شهر أكتوبر، حيث كشفت على أرقام صادمة كون واحدا من كل ثمانية أشخاص في العالم يتعايشون مع اعتلالات الصحة النفسية التي يمكن ان تؤثر على صحتهم البدنية والعقلية وكيفية تعاملهم مع الاخرين، وأنهم معرضون للتهميش والاقصاء من الحياة العامة، وأغلبهم لا يصل الى العلاجات الضرورية ولا من يحميهم، وأكثر من ذلك قرابة مليار شخص مصاب باضطرابات عقلية ، وأن الاكتئاب سبب رئيسي للمرض والعجز بالإضافة إلى أن شخصا يموت كل 40 ثانية من الانتحار,,,
وتستوجب كل هذه الأرقام الصادمة لمشكلات الحياة النفسية الاستثمار الجماعي والفردي في موضوعها من الجهات المعنية وكذا تقديم الدعم لمن يحتاج اليه كل من موقعه وخبرته ومسؤوليته، كما يوفر التواصل مع النفس والانصات إلى معناها وسط فوضى أصوات العقل الداخلية والخارجية مساحة خاصة لا مندوحة للإنسان / الفرد منها في مواجهة احباطات وضواغط الحياة اليومية، ويكمن السبيل نحو عمق الداخل في إيجاد الهدوء مع النفس وخلق المعنى من الحياة بدل الوقوع تحت هيمنة التوتر والتفكير العقلاني المفرط، بالإضافة الى السماح للنفس الاتساق مع جمال الطبيعة والحركة نحو الصحة النفسية بالتفريغ النفسي للمشاعر الداخلية ضمن جلسات حميمية مع الأفراد والجماعات بأدوات ومهارات بناءة تعزز حق الصحة العامة للإنسان.
* كاتب صحفي/ مستشار أسري/ لايف كوتش