لا تأتي الكلمات أو المصطلحات التي تعبر بها جماعة ما أو حتى فرد ما –لاتأتي– اعتباطا، فلدى كل واحد منا أو جماعة ما، خلفية فكرية أو عقائدية تعطي للكلمة معنى مستند إلى مراجع أو أحداث تاريخية، أو أقوال وحكم تعود لزمن ما. فقد جاء في الأثر الشريف: “لكل امرئ مانوى“، وجاء أيضا “النية أبلغ من العمل“، وأكد الشاعر:
الـرأي قــبــل شــجـاعــة الـشـجـعــان.
فالرأي هنا هو النية أو ما يفكر أحد منا فيه أو ينوي القيام به، وجاء في الحكمة الصينية: “قبل أن تعطي الشخص بندقية أعطيه فكرا“، فالنية هي المعطى الفكري والمعنوي الذي يستند إليه أي واحد منا قبل القيام بعمل، وهو يتخذ أبعادا كبرى عندما يصبح الأمر يهم الجماعة وليس الفرد فقط، وهو معطى أخلاقي وسلوكي، إذ من المستحيل أن يكون محل إجماع إذا لم يك يتميز بالإيجابية، وحتى على المستوى الفردي، فالمعنوي يتخذ ماهو أخلاقي للوصول إلى الغاية المنشودة عن طريق المرحلة الثانية التي هي العمل من أجل تحقيق ما نوينا الوصول إليه قبل. لذلك عندما بدأت البشرية في اكتشاف دور التربوي أو المرشد أو المعلم في خلق الأجيال عن طريق التعليم للصغار، فإن الهدف ارتكز على تهيئ التلميذ أخلاقيا –حسب المرحلة– حتى يستغل قدراته العقلية في التفكير وتعلم المعنوي بشرف أولا حتى يستغل مستقبلا هذا المعطى المعنوي في العمل الذي ينتظره عندما يكبر. هناك حوادث السير التي قد تمنع الفرد أو الجماعة كعدم التعلم أو الفقر أو سوء التربية على المستوى الفردي أو الحروب والاستغلال على المستوى الجماعي التي قد تمنع الفرد والجماعة من التطور، لكن هذه الحوادث لا تعرقل الفرد والجماعة إلا جزئيا وفي مراحل مؤقتة تاريخيا يتجاوزها الفرد أو الجماعة في كل مرة بعد أن يكتشف أن الأمر خطأ، فتبقى دائما المصلحة التي ترتبط بما ينوي الشخص أو الجماعة القيام به والصراع الذي يواكبها، ” ولولا دفاع الله الناس بعضهم لبعض لفسدت الأرض“.
لذلك فالنية قد تكون خيرا وقد تكون شرا، لكن دائما يغلب الخير الشر لأن الإنسان مطبوع عليه بصفة عامة لكون المصلحة في الخير خاصة إذا كانت عامة، إلا أن نية ارتكاب الشر موجودة كذلك، لكن سيطرتها مؤقتة ومجرد حوادث حتى وإن بدت لنا عامة ومتعددة، لأننا قد نشكوا من سقوط طائرة – مثلا- ولكن ننسى كم طائرة وصلت سالمة، لأن الشر مثير بينما الخير اعتيادي، وهي مسألة نفسية تعود لطبيعة الإنسان عبر آلاف السنين والتراكم المعرفي والمعيشي الذي طُبع عليه، فلا عقاب على المظنة حتى ولو كانت شرا، ولكن عندما ينوي الإنسان الخير فإن قوته تكون مضاعفة، لذلك أكدت الحكمة الشعبية: “دير النية وبات مع الحية“، فالدافع المعنوي يمنح الشخص قوة لمواجهة والصراع ضد الشر والتغلب عليه وإسداء النصح لنفسه أو لمحيطه الصغير أو الكبير حسب المكانة التي يتواجد فيها اجتماعيا، فالنية هي المحرك المعنوي وهي الدافع أيضا، إذ يقول أرثر شوبنهور:
“يمكن للمرئ أن يفعل مايريد، ولكن لا يمكنه أن يشاء مايريد“، فنحن قد نفكر أو ننوي القيام بفعل ما، ولكن لا يمكن أو نشاء لأننا محكومين بما حولنا، مجتمعات وقوانين، وسلوكيات وغيرها، وقد تؤثر الجينات على حياتنا مع العامل الوراثي لكل منا، إذ لا يمكن الفصل بين سلوكنا الاجتماعي ودماغنا الذي يتأثر بالعلم أو بالثقافة بصفة عامة، وبذلك يختلف الأمر بين حالة و أخرى حتى في النوايا؛
*بــاحــث