من خلال العلاقة التي ربطت بين الغرب الاستعماري والدول المتخلفة أو النامية، سواء في المرحلة الاستعمارية أو بعد إعلان “الاستقلال” لهذه الدول النامية، فقد انتشرت ظاهرة تقليد الغرب في هذه الدول، إذ “المغلوب مولع بتقليد الغالب” كما أكد ابن خلدون.
ولما كانت الدول الغربية قد مارست استغلالا مدمرا للدول النامية والمستمر حتى الآن وإلى الآن، فإنها قامت -الدول الامبريالية أو الاستعمارية- بتحويل جزء من عائد الاستغلال إلى شعوبها ، وبذلك جمّدت الصراع على جبهتها الداخلية، أما الدول النامية فقد ازدادت تخلفا، والتي أصبحت بعد المرحلة الاستعمارية تحول أموالها وقيمها وثرواتها إلى نفس البلدان الامبريالية، وهو ما أكدته نظرية المحيط والمركز، أي أن المحيط الذي هو هذا العالم النامي أو المتخلف يُحوّل قيمه وثرواته بطريقة أو أخرى إلى المركز أي الغرب، كما شرح ذلك المرحوم سمير آمين، وهذا التأثير أو التأثر بالغرب أدى إلى ظهور مهن جديدة وتِبيان ماهو سلبي وما هو إيجابي أحيانا.
ولما كانت الدول الغربية تتوفر على بنية مالية وتعليمية جيدة، فإن مشاكلها الاقتصادية تحل دائما على حساب الدول المستعمرة سابقا، وقد بدأت المجتمعات النامية في تقليد المجتمعات الغربية من الآخر رغم ومع وجود الفارق، إذ أن التعليم الخاص والطب الخاص والمحاكمة العادلة بالتكاليف، واكب ظهورها في المجتمعات الغربية كون القطاع العام أي الذي تشرف عليه الدولة وتموله وصل درجة متساوية مع القطاع الخاص الممول من طرف الخواص، الذي لم يعرف أي انتشار إلا بعد اكتمال خدمات القطاع العمومي في كل الميادين، وبالتالي فالفروق بين خدمات القطاع العام والخاص في هذه البلدان ضئيلة.
وبالمقابل انتشرت ظاهرة خصخصة المؤسسات العمومية في البلدان النامية تقليدا للدول الامبريالية واعتقادا بصوابيته أو لفشل القطاع العام لأسباب مختلفة أهمها الفساد، في حين أن القطاع العام في الدول الثرية لا يختلف عن القطاع الخاص، كذلك الوظيفة العمومية لا تختلف في أجورها أو مراتبها عن الوظيفة في القطاع الخاص عكس ما يجري في العالم النامي وبالخصخصة ظن البعض في الدول المختلفة وتعليمات الصناديق الدولية اعتقادا أن بيع القطاع العام للخواص سيؤدي إلى نهضة اقتصادية، وهو أمر لم ولن يتحقق لعدة أسباب بنيوية وسياسية ودولية، فالغرب صعد إلى السطح ورمى السلاليم، وسيطر بالقوة العسكرية عند الضرورة، وبفساد النخب في العالم الثالث على مقاليد الأمور، وصار الناس أفقر باستثناء كمشة من الأوليغارشية وباعة الأحلام السياسية/المالية. وقد ظهرت في خضم هذا الارتباك الاجتماعي والاقتصادي مهن متعددة كالوكالة، والطب الخاص، والتعليم الخاص، والسمسرة، والبورصات، والمهن الحقوقية، والأخرى الجمعوية، والمنظمات الرياضية، والموسيقية، واعتبر البعض أن هذه المهن هي مهن مواكبة وضرورية، وتقدم خدمات للمراجع/المواطن بكل شفافية، في حين أن أي خدمة بمقابل في مجتمع محروم هي خدمة لا أخلاقية، إذ أن القادر هو الذي سيؤدي ثمن العملية الجراحية وشراء الدواء حتى الكشف عند الطبيب، فالأغلبية لن تستطيع ذلك لأن الأمراض المزمنة والأوبئة وسوء التغذية والتدخين وانتشار اقتصاد الجريمة تقضي بسرعة على الذين لا يستطيعون مجاراة التطبيب بمقابل مالي، كذلك فإن الطفل الذي يدرس في التعليم الخاص أو البعثات أو خارج البلد المتخلف هو الذي ستكون له مكانة اجتماعية مستقبلا، أما الدارس في القطاع العمومي فلن يستطيع أبدا الحصول على مستوى علمي، ففي كل مئة طفل في القطاع العمومي أغلبهم يهجرون مقاعد الدراسة، لذلك فإن أي مهنة بمقابل مالي في مجتمع محروم هي مهنة لا أخلاقية، فإذا كانت الأغلبية 80% لا تواكب ماليا واجتماعيا القطاع الخاص في تطوره ، فإن 20% فقط هي التي تستفيد من المداخيل وتفرض شروطها اللا أخلاقية مما أدى ويؤدي إلى انتشار الجريمة والفساد المالي والرشاوى لمحاولة جزء من ال 80% الوصول إلى ما وصلت إليه ال 20% وبطرق لا أخلاقية.
*باحث