تعرف باكستان هذه الأيام صراع بين مؤسسة الجيش وحزب ورئيس الوزراء السابق عمران خان ، واعتقال هذا الأخير وقيام أنصاره، بردود عنيفة ومظاهرات أدت إلى خسارة اقتصادية كبيرة بالمنشآت ترتب عنها اعتقالات عديدة، كما عرفت باكستان خلال الأسابيع السابقة ضربات متبادلة ضد المعارضة الشيعية في إيران وضربات إيرانية ضد معارضي إيران من جبهة سنية تتواجد في الأراضي الباكستانية ولا تبعد هذه الصراعات عن الملف النووي الإيراني و الخلفية السعودية في الأزمة ، وبالتالي الكيان الصهيوني وواشنطن التي سبق لها الاعتداء على الأراضي الإيرانية و اغتيال عناصر قيادية في إيران … وباكستان الدولة الإسلامية النووية الوحيدة ، والتي يبلغ عدد مواطنيها 220 مليون نسمة، والتي عرفت حروب مع الهند في 1948 و 1965 و 1971 ، والتي ترتبط بعلاقة وثيقة مع الصين ومع المملكة العربية السعودية ، وقد انفصلت عن الهند في 1947 بقيادة محمد علي جناح ( جيناه) والتي ارتبطت بالقضايا العربية والإسلامية وكان لها دور كبير في التعريف بالقضية المغربية في 1954 و1955 بالأمم المتحدة والقضية الفلسطينية…. في هذا المقال نتناول بعض الزوايا في القضية الباكستانية.
الــقـــاعــدة والـمـخــابرات الـبــاكـســتــانــيــــة
منذ الانقلاب الأفغاني الذي أطاح بالرئيس محمد داوود في 1978 وصعود النجمة الحمراء في كابول التقت مصالح الغرب الإمبريالي مع مصالح الجماعات الإسلامية في الإطاحة بنظام ” محمد نور طره قي ” – الأمين العام لحزب الشعب الماركسي- الذي صار رئيسا للدولة، وقتل فيما بعد من طرف رئيس وزرائه حفيظ الله أمين، الذي اغـتـيـل بعد الانقلاب الذي قاده بابراك كارمال بدعم عسكري كثيف من الاتحاد السوڤياتي (= دجنبر 1979). وهكذا انتقل إلى أفغانستان المئات، وصاروا آلافا فيما بعد من العرب، الذين أطلق عليهم العرب / الأفغان بدعم معنوي ومالي من طرف أغلب الدول الإسلامية خاصة أقطار الخليج العربي التي كانت تخدم الأجندة الأمريكية وكان من أوائل الأفغان العرب كما أشير سابقا عبد الله عزام المفكر الفلسطيني وزعيم جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين والأب الروحي للعرب / الأفغان الذين جاء أغلبهم من العربية السعودية، وكان على رأسهم أسامة بن لادن نجل العائلة الثرية السعودية ذات الأصول اليمنية. وكان التحاق العرب الأفغان بالجهاد في أفغانستان يحظى بالعطف والمساندة من طرف الدول العربية / الإسلامية، التي يسرت وساعدت على مرور الآلاف منهم للجهاد الأفغاني عن طريق البوابة الباكستانية، التي كانت بإشراف الجنرال ضياء الحق الرئيس الباكستاني الذي أنقذته الأزمة الأفغانية من العقوبات الأمريكية ضد البرنامج النووي. وضد نظامه الذي كان وليد انقلاب دموي (=إعـدام علي بوتو).
بعد خمس سنوات من وصول أسامة واستقراره في أفغانستان / باكستان اغتيل عبد الله عزام في 1989 في انفجار مدبر. وكان الجيش السوڤياتي قد غادر أفغانستان في 15/11/1988 قبل ذلك بأشهر، وفي نفس السنة اغتيل الجنرال ضياء الحق بانفجار طائرته. وبدأ إهمال المجاهدين الذين أصبحوا عبئا. وعادت العقوبات الأمريكية ضد البرنامج النووي الباكستاني. وكان انهيار الاتحاد السوڤياتي قد بانت معالمه وظهر أسامة بن لادن الزعيم الجديد للأفغان العرب ولمنظمة القاعدة التي كان قد أسسها عبد الله عزام في 1984.
لم يكن ما عـرف بتنظيــم العرب /الأفـغـان الذي تحــول إلى تنظيم القــاعـدة والتي انخرط فيها غير العرب، لم يكن بعيدا عن المخابرات الباكستانية التي كانت لها علاقة عضوية بعناصر القيادة؛ فجهاز المخابرات الباكستانية كان هدفه دائما حماية الأمن القومي الباكستاني والبرنامج النووي والصاروخي. وكان لواشنطن عداء خاص لباكستان – باعتبارها دولة إسلامية نووية – وبالتالي فإن مواجهة النظام الماركسي الأفغاني في كابول كان هدفه – بالإضافة إلى الأجندة الأمريكية – حماية باكستان أيضا من مطالبة أفغانستان بالأراضي الحدودية بما فيها بيشاور الباكستانية ثم حماية البرنامج النووي، وأيضا محاولة توسيع المالكين للسلاح النووي في العالم الإسلامي / العربي لإزالة الضغط الغربي على إسلام آباد من طرف الغرب وقد دأبت واشنطن على إصدار العقوبات على باكستان بمجرد نهاية الحاجة إليها. فالبرنامج النووي ذو الطبيعة الإسلامية غير مقبول والقيادة الباكستانية – خاصة جهاز المخابرات – مستوعبة لهذا جيدا. لذا فنهاية الأزمة الأفغانية بأبعادها السوڤياتية في 1988 أعادت العقوبات التي كانت طبقت في 1977 ورفعت بعد الانقلاب الأفغاني، لذلك كانت القيادة الباكستانية تلعب على حبال عدة في علاقاتها بواشنطن وأدت هذه العلاقة – الملتبسة بالصراع مع الهند والصداقة مع الصين العدو التقليدي للهند الذي اقتطع في حرب 1962 35 ألف ميل من الأراضي الحدودية مع الهند – إلى عدم استقرار مزمن لباكستان كاد يعصف بالدولة الإسلامية، التي تأسست في 1947 وهو الهدف الاستراتيجي لواشنطن في علاقتها مع باكستان.
صـــراع الـنـفـــط والــغــــاز
كان الجنرال محمود أحمد بواشنطن في 11 شتنبر 2001 يجري مباحثات مع القيادات الأمنية حول أنبوب النفط والغاز الممتد من الجمهوريات السوڤياتية سابقا، و حول دعم طالبان التي فرضت السلام وسلطتها في أفغانستان، عندما وقع الانفجار في مركزي التجارة العالمي. وكان الجنرال القصير القامة قبل ذلك قائدا لمنطقة روالبندي العسكرية، وتولى رئاسة جهاز المخابرات مكافأة له من طرف الجنرال برويز مشرف، الذي أصبح حاكما عاما ثم رئيسا لباكستان بعد انقلابه على الحكومة المدنية برئاسة نواز الشريف في أكتوبر 1999. وحتى قبل إجراء أي تحقيق حسم الأمريكيون قرارهم في كون القاعدة والشيخ أسامة بن لادن وراء حدث 11/9/2001 لقد سمع الجنرال محمود أحمد كلاما قاسيا من المسؤولين الأمريكيين وعلى رأسهم “ أرميتاج “مساعد وزير الخارجية الأمريكي و” ثنيت” رئيــس المخــابــرات الــمركزية الأمـريكية و رددوا عــبارة ” مـن ليس معنا فهو ضدنا” و قدموا مشروعات تعاون قبل بها الجـنــرال مــحـمـــود جـمـلة وتفصيلا حتى دون الرجوع إلى القيادة السياسية / العسكرية في باكستان، وأهمها القضاء على نظام طالبان في أفغانستان. كان انتصار طالبان على الجماعات الإسلامية المتصارعة في 1996 يهدف إلى إحلال السلام في أفغانستان من أجل حماية أنابيب النفط والغاز المزمع إنشاؤها لجلب الغاز و النفط من الجمهوريات الإسلامية نحو تركيا. هذه الجمهوريات التي تأسست إثر انهيار الاتحاد السوڤياتي: تركمنستان وطاجكستان وأوزبكستان…
وكانت عرابة هذه السياسة السيدة روين رفائيل مساعدة وزير الخارجية الأمريكية السابقة، وهي في نفس الوقت أرملة ( رفائيل) سفير واشنطن السابق في إسلام آباد، الذي قتل مع الجنرال ضياء الحق بانفجار طائرة الأخير في 1988. وعلى إثر التدخل العسكري الأمريكي وهزيمة طالبان في 2002 ، تم تعيين مهندس نفطي يعمل في إحدى الشركات الغربية رئيسا لأفغانستان هو السيد حميد قرضاي حرصا على سياسة النفط والغاز التي تحكم الصراع في المنطقة، و العمل على إنتاج مادة الألثونيوم و هي مادة استراتيجية تتوفر عليها أفغانستان بإنتاجية مستقبلية كبيرة.
كان الجنرال برويز مشرف المعجب بكمال أتاتورك في حاجة إلى شرعية واعتراف دولي. وكان مستعدا بفكره وبطبيعته الشخصية لمساعدة واشنطن وكان اختياره الجنرال محمود على رأس جهاز المخابرات جزء من هذا التفكير. إلا أن الجهاز على مستوى قواعده كان ضد هذه السياسة فمصلحة باكستان تختلف جذريا عن مصلحة واشنطن لذا كانت الحرب ضد القاعدة والجماعات الإسلامية الأخرى في المنطقة وضد جيش محمد وعسكر طيبة وطالبان ومجاهدي كشمير غير واضحة فهي مرة تنجح ومرة تفشل ولا تنتهي إلا لتبدأ. فالصراع داخل الأجهزة الأمنية الباكستانية كان محتدما وانعكس على الصراع السياسي، ومحاولات اغتيال برويز مشرف، وعودة بي نظير بوتو بدعم غربي، و تقول لجنة التحقيق إن الجنرال مشرف – الذي كان استقال وغادر البلاد- له يد في اغتيالها، وقد ظل يرفض الحضور أمام اللجنة. وباغتيال بي نظير فإن زوجها علي زرداري تولى زعامة حزب الشعب ورئاسة الدولة بعد الانتخابات رغم أنه ليس شخصا مقبولا شعبيا لاتهامه بالفساد المالي ولعداء أسرة بوتو الشديد له. ومن حسن طالعه أن ابني علي بـوتــو كانا قد اغـتـيــــلا بالســــم والرصاص على التوالي. وبذلك خلت له الساحة و لطبيعة فكره كانت الجماعات الإسلامية خاصة القاعدة أشد خصومه.
لقد كان اغتيال الشيخ أسامة بن لادن في منطقة عسكرية قرب العاصمة إسلام آباد أمرا مستحيلا دون تعاون الأجهزة الأمنية الباكستانية، بل إن الإبلاغ عنه كان من داخل الأجهزة الأمنية، وبدون مساعدة هذه الأجهزة اللوجستية يستحيل تنفيذ العملية، والذي اطلع على وصية أسامة بن لادن يتضح له أن الشيخ كان ينتظر الوفاة لأسباب صحية أو كونه كان محاصرا في ضـاحية ” أبـوت آباد “. ولا شك أن قرار اغـتيال الشيخ كان بالمساعدة الكاملة لأجهزة الأمن – أو إحداها – الباكستانية التي انتصر فيها جناح ضد أخر في حرب المواقع والصراعات مما سمح بإجراء العملية العسكرية في 2 ماي 2011 ، التي انتهت بوفاة زعيم القاعدة الكاريزمي و ستكون لها انعكاسات سياسية وعسكرية في مقبل الأيام خاصة على باكستان التي نشر رئيسها آنئذ – زرداري– في واشنطن بوست الأمريكية ( القريبة من المخابرات المركزية الأمريكية) في 3 ماي أي بعد يوم تقريبا من اغـتـيـــال أسامة بن لادن – للصدفة – أكد فيه عدم ” علم “ الجهات الرسمية بالعملية الأمريكية التي استغرقت 40 دقيقة و نفذت بجوار أكبر قاعدة عسكرية باكستانية والحامية العسكرية لإسلام آباد وعاصمة باكستان، ثم تلا ذلك تصريح لوزير الخارجية الباكستاني أكد فيه أن باكستان “علمت بعد 15 دقيقة من الهجوم”…
لقد أكدت القيادة المدنية والعسكرية في باكستان بعد هجوم 2 ماي أن أي هجوم أو إنزال جديد سيواجه من طرف الجيش، إلا أن الكلام هو للتخفيف من الصدمة داخل باكستان، وموجه للهند التي أعلنت حكومتها بعد عملية 2 ماي 2001 حقها أيضا في مهاجمة أعدائها داخل باكستان خاصة مجاهدي كشمير وجيش الصحابة وجيش محمد، وهو إنذار ليس موجها لواشنطن -كما قد يعتقد- التي لازالت طائراتها بدون طيار تستبيح المجال الجوي الباكستاني بإذن إسلام آباد الكامل.
*باحث