فور إعلان استقلال المغرب في 02 مارس 1956، وبعد أسابيع قليلة ظهرت في بعض المدن فرقا غامضة ادعت علاقتها بالمقاومة وأن هدفها الانتقام من الخونة الذين كانوا يساندون الاستعمار الفرنسي 1912-1956. وقد عرفت عدة مدن عمليات قتل أو محاولات قتل في الرباط وفاس والعرائش ومدن أخرى، لكن مدينة مراكش كان لها السبق إذ تفاقمت فيها هذه الانتقامات إلى درجة إشعال النار ورمي جثامين القتلى في المحرقة بل وتم رمي أحدهم حيا في النار*، فضلا عن الذين قتلوا ولم يتم رميهم في المحرقة التي نصبت في ساحة قريبة من أسوار حي باب دكالة، وكانت هذه الساحة ملعب عشوائي لكرة القدم وأحيانا لبعض “الحلاقي” التي تقام خارج ساحة جامع الفناء، وقد تتواجد فيها حافلات صغيرة تنقل المسافرين من البادية إلى المدينة والعكس، بل يقام فيها سنويا مهرجانات «السيرك» أو في المناسبات والأعياد، وأهل مراكش القدامى وحتى الصغار منهم شاهدوا نقل جثامين المقتولين على عربات نحو ملعب “الخائنين” كما اشتهرت الساحة التي تحول مكانها حاليا إلى ملعب مجهز لتداريب كرة القدم وغيرها من الرياضات ومقهى، والأحداث الدامية المؤسفة بدأت خلال فاتح وثاني وثالث ماي 1956 م أي بعد أقل من شهرين من الاستقلال، وقد صادفت أيام 19 و20 و21 من رمضان 1375 هـ، وهو أمر مأساوي، إذ في شهر رمضان والمقدس لدى المغاربة والمسلمين عامة وقعت هذه الجريمة النكراء وجعل القتلة من أنفسهم قضاة ومنفذين وبطريقتهم البشعة.
وبالرجوع إلى هؤلاء القتلة فلا أحد منهم كان ضمن المقاومة المسلحة 1953- 1956 م، وأسماءهم غير معروفة في حركة المقاومة المسلحة أو الحركة الوطنية بمراكش فهم خرجوا من الظلام ولأسباب انتهازية –كما يبدو- وخوفا وللهروب من المحاكمة التي قد يواجهونها، وكان زعيم القتلة والمسمى “الݣراب” أو ݣربي عند آخرين، والݣراب هو سقاء الماء إذ أن الدور كانت تتوفر على ماء الآبار فقط وهو ماء غير صالح للشرب، وقد لا يتوفر بعضها على بئر فكان “الݣراب” هو الذي يجلب الماء إلى المنازل من “السقاية” لملأ “الخوابي” والأواني وغيرها، وكان لݣربي هذا شقيقا يسانده وبعض الأشخاص وشكلوا عصابة القتلة وكان قبل ذلك يبعث كتابات أو رسائل لبعض الأثرياء أو المظنون أنهم أثرياء لابتزازهم باسم المقاومة وأغلبهم كان يرضخ ويؤدي لهم “الملزومة” إلا أن السلطات الوطنية علمت بالخبر من خلال خليفة العامل في منطقة الباهية واعتقلت “الݣراب” وسلمته للسلطات الفرنسية نظرا لأن الشرطة والسجن والمحاكم كانت ولازالت في أيدي الفرنسيين، لكن الشرطة الفرنسية أطلقت سراحه ، كان ذلك في أواخر أبريل من سنة 1956م ولم يقضي سوى ليلتين في الاعتقال ، وقد اشتهر لدى الجمهور اعتقاله وأعماله وكونه ليس من المقاومة وإنما مجرد لص فحقد على خليفة العامل في مقاطعة الباهية واسمه محمد بن عبو، وبدأ مع أعوانه في الترصد له، وفي فاتح ماي من نفس السنة ذهب قائد المقاطعة مع صديق له إلى منطقة سيدي أبي عثمان وهي ضاحية قريبة جدا من مراكش، وتبعهم الݣراب وعصابته وقتلوا هذا الصديق، أما الخليفة بن عبو فرغم إصابته بالرصاص استطاع الهروب إلى قارعة الطريق ووجد سيارة لأحد المواطنين نقلته إلى مستشفى “ابن زهر” «=المامونية شعبيا»، وحضر العامل إلى المستشفى لمعايدته وأبلغه الخليفة وهو في النزع الأخير أن قاتله هو “الݣراب” وتوفي خليفة العامل بعد ذلك. ومن هنا انطلقت الأحداث فالݣراب وعصابته فهموا أن مرحلتهم انتهت وأن القبض عليهم ليس إلا مسألة ساعات، فانطلقوا جماعة في الغد بادعاء الانتقام من الخونة، وهكذا بدأوا بزيارة منازل هؤلاء الذين اعتبروهم خونة وأحرقوا جثتهم بعد قتلهم أو بعضهم وهم: محمد مغنية، وإبراهيم العلج، ومحمد بن منصور، وعمر الورزازي ، ومحمد بلمحجوب، ومحمد بلمكي، والجيلالي بناصر، وبلال بنسعيد، وبوعلام الشتوكي، وادريس ماكيرا، وبن بشير محمد، وهناك قتلى لم يرموا في المحرقة ولكنهم قتلوا في أماكن أخرى. وهناك غموض حول عدد الذين قتلوا وعدد الذين أحرقت جثتهم وأحدهم هو محمد مغنية أحرق حيا، إذ تم رميه في المحرقة الضخمة التي تم تهييئها قبلُ لذلك.
هناك عدة أسئلة تطرح في موضوع هذه المأساة التي أدت فيما أدت إلى نفور الجماهير المغربية من العمل السياسي، ونشر الإشاعات المحبطة، فالأحداث المأساوية وقعت في فاتح ماي، وكان أول عيد للطبقة العاملة بعد الاستقلال وجماهير العمال كانت موجودة، ومع ذلك لم يتدخل أحد لمنع هذه الأحداث. وكانت الحركة الوطنية قوية أيضا وبإمكانها منع هذه الأحداث ولم يتدخل أحد لمنعها أو إيقافها كونها استمرت لثلاثة أيام متواصلة، كذلك فالعصابة كانت على اطلاع بسكن ومنازل الضحايا فمن أطلعهم عليها؟ ثم كذلك الجمهور ظل متفرجا باستثناء تدخل البعض أثناء الهجوم على منزل الفقيه محمد بورݣبة، وكان وزيرا في حكومة محمد بن عرفة*، وكان يتوفر على بندقية دافع بها على نفسه ليوم كامل إلى أن قُتل زعيم العصابة “الݣراب” ومع ذلك أخذت العصابة التي فقدت زعيمها جثمان الفقيه وأحرقتها في باب دكالة بالملعب المشؤوم، هناك من يرى أن هذه الأحداث صنعت من طرف عناصر خارج المدينة وهو أمر جد مستبعد، فالأحداث داخلية صرفة كذلك لم تصدر بيانات استنكارية ضد هذه الأعمال وبقي أن أشير إلى أن بعض القتلة 6 و أو 7 أشخاص تم اعتقالهم وحكموا بالسجن لمدة لا تتعدى 7 سنوات وأغلبهم لم يحاكموا أصلا إلا أن أهل مراكش لازالوا يتذكرونهم.
في حوار مع مولاي عبد السلام الجبلي -أطال الله عمره- أكدلي كونه كان في شمال المغرب أثناء هذه الأحداث، وهي -أي الأحداث- وليدة رد فعل ليس إلا، ومن طرف عصابة استغلت الظرف العصيب الذي كانت تعيشه البلاد فور الاستقلال والخلافات التي ظهرت بين عناصر المقاومة وداخل الحركة الوطنية والخلاف حول أو فاق “إكس ليبان”، وهذه العصابات رغم عدم إدراكها واستيعابها للظرف السياسي، فإنها انتهزت الفرصة لاستغلاله بطريقة انتفاعية انتهت إلى هذه المذابح، وفي حديث مع المرحوم محمد الحبيب محي الذي كان في ديوان السيد عامل المدينة مولاي المهدي الصقلي* فيرى أن الأحداث كانت تلقائية نتيجة عدم قيام الشرطة الفرنسية بواجبها، فضلا عن كون السلطة المغربية لم تقم باستدعاء هذه الشرطة بعد تفاقم الأحداث حتى لا يشكل ذلك ادعاء أننا لا نستطيع حل مشاكلنا إلا بفرنسا ، أيضا في حوار مع المرحوم محمد ميهوبي -الذي وضع كتابا عن هذه الأحداث- فهو يؤكد الدور المزدوج لأحمد الطويل، وهو عنصر من المقاومة بالدار البيضاء انشق عنها ومارس القتل والاغتيال ضد عدد من المقاومين في البيضاء، وكونه ساهم في أحداث مراكش بالمشاركة مع بقايا الاستعمار؟
تبقى هذه الأحداث المؤلمة وصمة عار، وهي فيما يتعلق بالبحث التأريخي غير مكتملة، فهناك خلاف حول عدد القتلى وعدد الجثامين التي أحرقت وعناصر العصابة الذين دخلوا السجن، والذين استطاعوا الإفلات، وتبقى الصورة ضبابية. وقد أبلغتني إحدى عائلات الضحايا -مقدم- أن السلطة وعدتهم بتعويض لكن لم يتم ذلك، كما أنهم لم يقيموا دعوى ضد الدولة لأجل ذلك؛
*باحث.
ملحوظة:
* كان عامل المدينة مولاي المهدي الصقلي، أما عامل الإقليم الممتد حتى الشرق فكان العقيد مولاي احفيظ العلوي -الجنرال فيما بعد-.
* محمد بن عرفة عين من طرف الاستعمار الفرنسي سلطانا خلال مرحلة نفي السلطان الشرعي محمد الخامس 1953-1956 إلى مدغشقر.
* زَعَم القتلة كونه كان يقول بعد نفي السلطان محمد الخامس: إذا رجع الخامس من المنفى أحرقوني حيا!