1 ـ في الحاجة إلى الفلسفة؛
ينطوي سؤال الفلسفة على المهمة الأساسية للفلسفة، لا من جهة الجدوى أو النفع، وذلك لأن سؤال جدوى الفلسفة يختلف جوهريا عن سؤال المهمة، كون سؤال الجدوى أو المنفعة رهين بما هو مباشر أو ما هو قابل للاستعمال في حدود الرغبة الآنية التي يمكن إشباعها بشتى السبل والوسائل التي يوفرها نظام الوفرة، من قبيل ما توفره لنا الطبيعة من جهة، و ما يوفره العلم والتقنيات العابرة لوجودنا من جهة أخرى. فما توفره الطبيعة من موارد، وما يوفره العلم والتقنيات، كفيل بإشباع حاجياتنا البيولوجية والمادية، والمعرفية. والحال أن حاجتنا للفلسفة ليست من هذا القبيل لأنها لا تنتمي لنظام الوفرة، وإنما لنظام الندرة، كونها متعلقة برغبة غير مباشرة ولا هي آنية، أي برغبة غير قابلة للإشباع، ولذلك فهي رغبة لا متناهية لا يتم إشباعها في حدود الاستعمال المباشر، أو هي ذات طبيعة ميتافيزيقية محضة، غير أنها تظل مع كل ذلك سابقة على كل الرغبات الأخرى، لسبب بسيط كونها تنتمي إلى الأساس الذي ينتمي إلى الوجود الذي تتعين فيه كينونتنا كنمط فريد لا يكتفي بإشباع الحاجيات والرغبات الآنية فقط، بل يسعى إلى كمال الكينونة، والحال أن هذا المسعى الميتافيزيقي لا يتحقق على نحو الرضا التام بالواقع، وإنما يتحقق في المسعى ذاته الذي لا يتوقف أبدا. فهل معنى هذا أن الميتافيزيقا مخيبة للآمال، أم أنها سعي إلى كمال الوجود؟ وهل معنى هذا أن الفلسفة بدون جدوى، أم أنها مهمة أنطولوجية محضة غير قابلة للاستنفاد؟ ذلكم هو سؤال الحاجة إلى الفلسفة. والخلاصة أننا بحاجة للفلسفة دوما، من أجل هذا السعي للكمال الذي لا يشبع رغباتنا الآنية، بقدر ما يقوي اقتدارنا على الوجود كمغامرة للكينونة في أفق اللامتناهي.
2 ـ ما جدوى الفلسفة؟
إذا فكرنا في هذآ السؤال سنجده سؤالا عديم الجدوى، ليس لأن الفلسفة من غير جدوى، بل لأن الفلسفة في غير أوانها، أو أن أوانها لم يحن بعد، (هيدغر). ولهذا لا ننتظر من الفلسفة أن تحل مشكلات الواقع الآنية، أو أن تعالج ذواتنا من أمراض العصر؛ فهذه مهمة لا يمكن أن تدعيها الفلسفة، ولا يمكن أن تنافس فيها علوم الطب والنفس والاقتصاد والمجتمع، لسبب بسيط كونها إن ادعت ذلك فهذا معناه أنها مجرد إيديولوجيا زائفة، أو هي شعودة لا تليق إلا بدعاة مزيفين يبيعون الأوهام. والحال أن الفلسفة هي هذا التمرين الميتافيزيقي على إبداع المفاهيم، (دولوز)، أي على ابتكار تصورات تقاس بمقدار مهمتها الجذرية في تأسيس الأساس، الذي يشكل الكينونة، في أفق غير مسبوق للإنسانية، أو في أفق حكمة الوجود برمته، وليس في أفق غرض كباقي الأغراض التي من شأن تحقيقها أن يشعرنا برضا الامتلاء وتملك الموجود والتحكم في العالم. لكنه لن يشعرنا قط بالرضا النابع من الاقتدار على حكمة العالم والإصغاء لنداء الحقيقة.
3 ـ إذا كان العقل أعدل قسمة بين البشر،
فهذا معناه أن التفكير هو الأداة الأكثر تقاسما بين البشر، من حيث المبدأ، وليس بحسب درجة الاستعمال. ولهذا كان التفكير في متناول الجميع، ما دامت كينوناتهمم جميعا مقتدرة على التفكير بحسب مجالات اهتماماتهم الخاصة. هكذا يظهر التفاوت في شدة الفكر بين مجال وآخر. وهذا معناه أن الفكر ليس مخصوصا بالفلسفة، كما يدعي البعض، فلا نستطيع إلا إثبات ذلك في الفنون والآداب والعلوم، لسبب بسيط كون الفنان والشاعر وعالم الرياضيات والطبيعة أو الاقتصاد والسياسة، ليسوا في حاجة ماسة لانتظار ظهور الفيلسوف حتى يفكروا في الفن أو العلم أو الاقتصاد والسياسة، كما يرى دولوز بحق. هذه الخلاصة تؤكد أن الفلسفة لا تنفرد بالتفكير، ولكنها تنفرد بابتكار المفاهيم. وهذا معناه أن مهمة الفلسفة هي ميتافيزيقية بالأساس، كون كل مفهوم لا ينكشف بمجرد الفكر بعامة، وإنما ينكشف في الاقتدار على إبداع مفاهيم تعبر عن العالم والحدث والصيرورة. وجه الاعتراض على هذا التصور، قد يكون في أن العلوم الطبيعية والإنسانية والفنون هي بدورها تبتكر مفاهيم خاصة بها، وأن انفراد الفلسفة بإيداع المفاهيم هو مجرد إدعاء، لكن هذا الاعتراض قد يزول بقدر ما نفهم أن إبداع المفاهيم الفلسفية إنما يجري على أرض الميتافيزيقا وليس خارجا عنها. ولذلك فإن الحديث عن نهاية الفلسفة والميتافيزيقا هو مجرد هراء لا غير. وبالمناسبة فدولوز كان شديد الاعتزاز بكونه ليس مفكرا وحسب، بل لأنه فيلسوف، وأنه ميتافيزيقي محض لا يعنيه أمر التفكير عامة كآلية، بقدر ما يعنيه أمر ابتكار المفاهيم كتعبير عن الكينونة.