1 –
الرغبة من حيث هي رغبة لا متناهية، غير أن موضوع كل رغبة أو المرغوب فيه، متناه ؛
ما يشبع الرغبة ليس هو موضوعها المتناهي، بل هو فعل الرغبة. غير أن هذا الفعل لا يحقق الرغبة إلا من جهة التطابق مع موضوعها، ولذلك فهو يرتبط بما هو محدود، وهذا لا يعني أن فعل الرغبة محدود لأنه لا ينتسب لجهة المرغوب فيه، وإنما لجهة الرغبة، وبالتالي فهو لا متناه أيضا. وهذا معناه أن الرغبة في ماهيتها لا تطابق إلا فعلها أو بالأحرى ذاتها. إن الأمر يتعلق هنا بكلية الرغبة.
أما إذا تأملنا الرغبة من حيث هي رغبة إنسان بعينه، بما أنها هي عين ماهيته، فإننا سنكتشف أيضا أن رغبته لا متناهية، من حيث هي فعل لا يكتفي بأي موضوع مرغوب فيه، أي بما أن كل مرغوب فيه ليس أفقا نهائيا لرغبته، وإنما يدخل ضمن سلسلة الموضوعات الملحقةبالرغبة، ولكننا سنكتشف أيضا وجه المفارقة، وهي أن هذه الرغبة لا تكتمل إلا بالموت، ولذلك كانت رغبة الإنسان متناهية، كونها محدودة في الزمان، أي أنها رغبة من أجل الموت بقدر ما تكون في الآن عينه رغبة من أجل الحياة.
2 –
لا تتناسب الرغبة إلا مع الفعل الذي يجعل من المرغوب فيه ممكنا؛ إذ لو فاقت الرغبة القدرة على الفعل الذي تنطوي عليه كإمكانية لتحقيق حالة إشباع جزئي ما، لكانت رغبة معطوبة، أي بدون فعل، ومهما اختل التناسب بين الرغبة والإمكانية، صارت مجرد رغبة بدون مضمون، أي مجرد عجز فادح. لذلك كانت الرغبة في كل شيء، بالنسبة لذات راغبة، هي المعادل الموضوعي للعدم المحض. إن الرغبة لا متناهية، ولكن إشباع كل رغبة ليس إلا متناهيا، أو أنه لا يتحقق جملة وتفصيلا، وإنما بالتقسيط، أو بالأحرى بكيفية زمانية، أي بتنسيب الرغبة للاقتدار على الفعل، بالنسبة للكائن، وبتنسيبها للتاريخ لا لمطلق الوجود، بالنسبة للكينونة المشتركة. وهذا معناه أن الرغبة وإن كانت في ماهيتها لامتناهية إلا أنها لا تتحقق دوما إلا بكيفية متناهية.
3 –
يكمن الفرق بين الميتافيزيقا وبين الإيديولوجيا؛ في كون الأولى وجهة نظر تعبر عن الوجود برمته، وفق المصطلح اللايبنتزي، ما دامت الميتافيزيقا هي علم حكمة محض يستهدف النظر في الوجود بما هو وجود ( أرسطو)، كأنطولوجيا أساس لكل أساس؛ وفي كون الإيديولوجيا إتلافا لحكمة الوجود، ما دامت مجرد آلية لتضليل الفكر، وإغراق الإنسان في لجة التضليل والتضليل المضاد، حيث يسود الرأي البذيء الذي يسلب الإنسان أعمق ما فيه، أي الاقتدار على الفكر والكينونة والحياة.
4 –
إن الجسد إذا قارب الشفاء، أو تعافى تماما من المرض، لا يجب أن يذكر نفسه بالمرض، وإلا زاد ألمه وشقاؤه. وكل حيطة وحذر ليسا في موضعهما، هو مجرد إطالة لا جدوى منها لحالة الخوف. وذلك لأنها لن تقينا من مرض محتمل، وإنما لأنها ستقودنا حتما إلى أعطاب الروح، أي أنها ستقودنا بالفعل إما إلى الدرجة الصفر للممانعة، أو إلى تلاعب مبني للمجهول بالأمن الصحي للحياة المشتركة.
5 –
كل ترجمة تعبير، وكل تعبير ترجمة. أو أن الترجمة والتعبير هما الشيء عينه ولا شيء غير ذلك. فإذا قلنا: “إن كل ترجمة تعبير”، فهذا أشبه بتحصيل حاصل، لأن التعبير ينطوي على الترجمة، فتكون الترجمة، بهذا المعنى، ضربا من التعبير، فلا ترجمة بدون تعبير، إذ أن التعبير هو الذي يجعلها ممكنة، فلا شيء يمكن نقله من أية لغة أخرى دون أن يكون معبرا عنه في لغة أخرى، وإلا كانت الترجمة من باب المستحيل، أو كانت بالفعل من باب المحال، وهذا محال.
أما إذا قلنا: “إن كل تعبير ترجمة، أي أن كل ما يعبر عنه في الوجود عامة هو ترجمة لشيء ما. وهذا يعني أن الترجمة بالمقابل تنطوي على التعبير، فلا يعدو أن يكون المعبر عنه، بغض النظر عن كونه قولا أو فعلا أو حركة بمثابة ترجمة للوجود برمته. فالإنسان مهما بدر منه من قول أو فعل أو انفعال أو حركة أو ما شابهها، هي ترجمة للكينونة، وما يمكن أن يقال عن البشر يمكن أن ينطبق على الحيوان والنبات والجماد أيضا، إذ أنها تعبير أيضا يترجم ما يكون عليه الوجود في كل أحواله. ومعنى ذلك أن الترجمة والتعبير هما الشيء عينه.
6 –
بدون فن ليست الحياة ممكنة، غير أنها ليست مستحيلة، إذا كان معنى الحياة يساوي في تقديرنا العدم، أو كان يعني وجودا من غير كينونة، حيث لا نوجد بقدر ما نكون، وإنما نوجد وفقط بقدر المعطى لنا لا غير، وحيث تكون الحياة بمعزل عن أيةقيمة للحياة، وعن الأفق الجمالي لغبطة الكينونة.
إن الفن وحده هو الذي يجعل من كل وجود كينونة جديرة بالحياة، وكل شيء يخلو من فن الحياة، لا يعول عليه مطلقا.
7 –
لو خيرت بين الكتابة والحياة، لاخترت الحياة لا الكتابة؛ وما دام، أن “لو” ليست من الواقع في شيء، لأنها احتمال مخيلتنا وحسب، بمعنى أنها ليست ممكنة إطلاقا، كونها تصور بعدي لا حق ينعكس في انفعالات التقدير الخاصة بنا وحسب كتفاضل ليس للوقائع، بل لما نتصوره لما يجب أن يكون، وفق أهوائنا بمفتضى ما ترغب فيه هذه الأهواء، لا وفق مجرى التاريخ؛ فإن معنى ذلك أن الكتابة عينها واقعة وجودية وتاريخية أيضا، وبالتالي فهي ليست نقيضا مقابلا للحياة، ولا تدخل ضمن ثنائية التفاضل، وإنما ضمن ممارسة الحياة، فكما يمارس غيري، مهنة ما، أو هواية بعينها، فأنا كذلك أمارس الكتابة، كفن للحياة، وذلك لأنني إذ أنغمس داخل السطور بكل جوارحي، وأمارس الكتابة بجسدي كله، باليد والدماغ، فإني أنفتح على الحياة كلها. إن الكتابة حياة، ليس لأننا نكتب ما نعيشه فقط، وإنما لأننا نعيش الفكرة التي وجهتنا للكتابة، أعني للحياة في أعمق أبعادها، بما أن الحياة ليست مجرد واقعة معطاة لذواتنا، وإنما هي كذلك ناتج فكرة الرغبة في الحياة.
8 –
ليست الكتابة قدرا، بل المكتوب؛ إذ أن الكتابة تنتمي للأفق اللامتناهي للكينونة l’Etre، كخلق وإبداع، وأن المكتوب ينتمي للحقل المتناهي للمكون(بفتح الميم) l’étant، كانكشاف وتعين لشكل ظهور الخلق والإبداع. وهذا معناه أن الكتابة سابقة أنطولوجيا على كل ما هو مكتوب، ومع ذلك فإنها ليست من قبيل القدر الذي يملي إرادته على المكتوب، لسبب بسيط كونها تنبع دوما من المستقبل، لا من ماض مكتوب سلفا، لإنها احتمال لامتناه لحدوث المكتوب داخل المجال الذي يخصه. إذ أن كل ما يكتب هو قدر ذاته، بما هو مكتوب، ولهذا فبقدر ما يكون هذا المنكتب شيئا في الحاضر، فإنه يصير شيئا للماضي، أي كقدر حاصل. لكن بما أن المكتوب ينتمي للكتابة من حيث هي أفق لا متناه، فإنه يحتفظ بشيء ما يقوله للمستقبل أيضا. وبذلك فإن المكتوب هو قدر قد يعني شيئا للكينونة إذا احتفظ بما هو أصيل في الوجود، أما إذا لم يحتفظ بأي شيء ما عدا الزائف، فإنه يكون أشبه بالقدر الزائف.