1 ـ
الوجود لا يسبق الماهية، ولا الماهية تسبق الوجود، فالماهية والوجود سيان، وذلك لسبب بسيط كون الوجود كجوهر هو ما تنطوي ماهيته على وجوده(سبينوزا). اللهم إلا احتسبنا التغير الطارئ على الوجود من حيث أنه يصير كذا أو كذا، وحينها يكون الأمر ليس متعلقا بأسبقية، بل يتعلق الأمر بما يطرأ على صفات الوجود من أحوال لا غير. لذلك ثمة سوء فهم ميتافيزيقي من قبل سارتر في هذه المسألة، وهذا راجع إلى نوع من التسرع الناتج عن الرغبة في اختزال الفلسفة في نزعة مذهبية وجودية، هي أقرب من الإيديولوجيا منها إلى الفكر الفلسفي، ولهذا أيضا كانت الوجودية السارترية نزعة زائفة. وللحديث بقية.
2 ـ
الوجود لا يسبق الماهية، ولا تسبق الماهية الوجود، كلاهما متساوقان، كونهما بالضرورة منطويين على بعضهما البعض، بمقتضى تعبيرهما معا عن الجوهر عينه. لذلك لا يمكن وضع الماهية كمقابل للوجود أو العكس وكأنهما منفصلان، أو كيانين من طبيعة مفارقة، وذلك لأن الماهية ملازمة للوجود ليس كظله الذي ينعكس من خلال هيئة وجوده، وإنما ككيانه الذي تنكشف فيه ماهيته بما هو وجود؛ أي بمقتضى أن الوجود هو ماهيته. إن وجود شيء ما يقتضي ماهيته في الآن ذاته، فإذا ما تساءلنا عن ماهيته، قلنا إنها هذا الشيء وليس ذاك. إذ أن الوجود والماهية ليسا ثنائيتين ميتافيزيقيتين منفصلتين انفصال هذا الشيء أو ذاك عن حقيقته التي يوجد عليها، أو عن تصوره كشيء ذي خصائص، ولا هما متعاقبين يعقب أحدهما الآخر، كما يعقب الظل صاحبه، أو كما يعقب الليل النهار.
مقابل ذلك يمكننا أن أن نقول إن الوجود يسبق الكينونة فقط، وأن الكينونة لا تعني الوجود أو الماهية، بقدر ما تعني
نمط الوجود الذي يساوق أحوال صفات الوجود، أو ما يطرأ على الوجود من لواحق بكيفية سبينوزية. وحتى عندما يصير الإنسان حرا، فليس معنى ذلك أن وجوده سابق على ماهيته، بقدر ما يعني أنه صار كينونته الخاصة ، أي على نحو نمط تنكشف فيه حريته على هذه الكيفية أو تلك.
3 ـ
يصر سارتر على أن الوجود يسبق الماهية، مع العلم أن الوجود هو ماهيته، وأن ماهيته هي وجوده من حيث هما متساوقان، لا متعاقبين زمانيا، ولا متتاليين منطقيا، ولا متجاورين عضويا إن لم نقل مكانيا، بقدر ما هما منضويين في بعضهما البعض. إذ بقدر ما ينكشف الوجود تنكشف ماهيته في الآن ذاته، والعكس صحيح، بقدر ما تنكشف الماهية يظهر الوجود. لهذا ليس للسبق هنا أي معنى، إنه مجرد تحويرات بلاغية لا علاقة لها بتصور الوجود من لا من حيث هو جوهر، ولا من حيث هو ماهية انكشاف هذا الجوهر الذي لا يمكن تصوره ثابتا ساكنا على الإطلاق (بارمنيدس)، ولا متحركا صائرا على الإطلاق كذلك (هيرقليطس)، ما دام هو الحدث، ومادام ينطوي على كل حدث، ومادام أن كل حدث فيه ينطوي على ماهيته في الآن ذاته، كما هو حال الإنسان الذي يعبر عن الوجود من حيث هو كينونة أو نمط وجود بحسب الاقتدار على جلب الوجود إلى ذاته. ولنأخذ على سبيل المثال جلب الحرية إلى الكينونة الخاصة بالإنسان، من حيث هي مبدأ وغاية في الآن معا، كونها تنطلق من الرغبة من حيث المبدأ، ومن حيث هي غاية للإنسان أي كسعي نحو تحقيق وجود صائر تنكشف فيه ماهيته على نحو حر. من مآزق سارتر أنه يرى أن الإنسان محكوم بالحرية، مع أنه يعتقد أن الوجود يسبق الماهية، غير أن هذا الحكم لا يعني- بعيدا عن أي مغالطات بلاغية- سوى أن الماهية تسبق الوجود، أي أن ماهية الحرية في الإنسان سابقة على وجوده، أي أن الحرية كماهية موجودة هناك، وما على الإنسان سوى أن يكتشف في نهاية المطاف أنه حر، وكأن الحرية معطاة سلفا، وليست ناتج رغبة في الحرية، كمبدأ للوجود وكغاية يسعى إليها الكائن، كنمط للوجود يتحرر من خلاله من كل أشكال الخضوع للعبودية، التي تتجلى في الخضوع لهيمنة الانفعالات الهوجاء، أوفي العبودية الطوعية للذات المهينة، وفي العبودية القسرية لذوات أخرى.