لقد كانت ولا زالت القضية الفلسطينية إحدى أكبر المظالم في التاريخ الإنساني، والتي أسست على كذبة كون فلسطين بلا شعب لشعب بلا أرض. وقد استغل الغرب هذه الادعاءات خصوصا بعد اتفاقية سايكس/ بيكو في 1916 بين وزيري خارجية بريطانيا وفرنسا لقسمة تركة الرجل المريض أي تركيا أو الدولة العثمانية. وتمت بلقنة المنطقة العربية التي صار اسمها الشرق الأوسط، وهو مصطلح ملغوم. وبعد الوهن الذي أصاب فرنسا وتركيا حلت الولايات المتحدة الأمريكية كداعمة للكيان الصهيوني الذي احتل الجزء الأكبر من فلسطين في 1948، ثم أضاف كامل فلسطين في 1967 والجولان، ورغم القرارات الدولية سواء لمجلس الأمن أو الأمم المتحدة فإن سياسة الكيل بمكيالين التي تنهجها الدولة الغربية أدت إلى تراجع ومع انهزامية الأنظمة العربية صرح رئيس وزراء الكيان وأمام الأمم المتحدة في دورة هذه السنة أن الجولان والضفة وغزة جزء لا يتجزأ من الكيان الصهيوني بل أظهر الخريطة ولا أحد تكلم، وبعد احتلال فلسطين صار الاحتلال احتلالين باحتلال العراق وتدمير سوريا وليبيا وأفغانستان والصومال، وإرجاعها إلى دول هشة أو فاشلة، ولاشك أن غموض ووهن والاعترافات بلا ثمن للحكومات العربية وعدم قيامها بما يجب وذلك بالتسلح بالعلم بجميع مقتضياته وتأييد قضية الأمة، وتهيئ الأمة و وضع برامج للحماية بنفس الأسلحة التي يملكها الأعداء أو الخصوم، خصوصا أن الكيان الصهيوني صار قوة نووية منذ الستينات. وهكذا فشلت الأنظمة القومية التي رفعت راية النضال لاسترداد الأراضي السليبة لكونها أضاعت أزمنة وأزمنة في هدف واحد هو المحافظة على السلطة وتوريثها، وكانت النتائج كارثية فأخطاء الكبير كبيرة كما يقال، وفي هذا المقال نستعرض علاقة تركيا بالكيان الصهيوني ونتائجها على الأمة الإسلامية والعربية والتي أدت إلى اعترافات متتالية بالكيان الصهيوني بلا مقابل واعتقاد البعض بأن هذا الكيان سيحميهم من خطر ما وقد أظهرت الحرب الحالية أن الإيمان بالقضية هو الأساس لأي نضال وللدفاع عن حوزة الوطن والأمة ، وأن الدعايات المؤسفة لبعض الدول كتركيا التي لها أجندة خاصة ضد الأمة العربية والتي تحتل أراضي عربية وتستولي على المياه مع عربدة عسكرية في سوريا، هي نفس ما يمارس الكيان الصهيوني والتي لها اتفاقات عسكرية واقتصادية مع هذا الكيان.
… منذ بداية الأزمة السورية وتحولها إلى حرب أهلية تعصف بشام العرب، في شام العرب، وكان الهدف هو زعزعة الاستقرار في المنطقة العربية، وتلك مسيرة طويلة في فلسطين، وفي العراق، وفي ليبيا، وفي سوريا، وفي السودان، وفي المغرب، والجزائر، ولها أسباب ذاتية بلا شك، وأسباب خارجية أيضا، يلعب فيها الغرب الدور الأساس. إلا أن العامل التركي ظهر بشكل ساطع في الأزمتين الليبية والسورية، بعد أن ظلت تركيا منذ 1923 منكمشة على نفسها خلال السبعين سنة الماضية. فبعد انهيار السلطة العثمانية في 1922، وإلغاء الخلافة الإسلامية في 1923، وصعود مصطفى كمال أتاتورك الذي أعلن “سلام في الوطن سلام في العالم“. انتهى دور تركيا الخارجي حتى بداية 1991 – مع استثناء التدخل العسكري في قبرص-.
البعض يؤكد أن نفوذ إيران في المنطقة العربية، كان العامل الأساسي في الخروج الدراماتيكي لتركيا من العزلة، والبعض يعزو ذلك إلى وصول حزب العدالة والتنمية التركي إلى السلطة، وقبله صعود حزب الرفاه بزعامة الراحل “نجم الدين أربكان“ الذي جعل العالمين العربي والإسلامي في صلب أجندته، باعتبار الفكر الإسلامي الذي تبناه يقوم على مواجهة العلمانية والتغريب، اللذين صبغا البلاد منذ 1923.
إلا أن تركيا ليست دولة ذات استقلال سياسي، فهي مرتبطة بمعاهدات مع الحليف الأمريكي، وهي عضو في حلف شمال الأطلسي “الـناتو” ولا يمكن أن تتخذ أي موقف كيفما كان بدون قرار متفق عليه مع واشنطن، وهو كما ظهر اليوم على سبيل المثال في إشكالية العلاقة مع قطاع غزة، بعد تدخل علني لوزير الخارجية الأمريكي رغم سياسة الانفتاح على القضايا العربية التي تنهجها أنقرة كونها سياسة مبرمجة أصلا مع واشنطن، لمواجهة الامتداد الإيراني.
لقد أظهرت تركيا عداءا استثنائيا دائما للأقطار العربية، خاصة العراق وسوريا، فرئيس تركيا/ الرئيس الأسبق “طورغوت اوزال” – المتوفى عام 1993- وضع خريطة لتقسيم العراق ودافع عنها. وهو أول من أعلن إخراج تركيا من عزلتها السياسية، وقدم طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وأعلن المساندة الكاملة لواشنطن في حربها ضد العراق، وسن سياسة بناء السدود ضد العراق وسوريا. فإذا أضيف إلى ذلك احتلال تركيا لمنطقة الإسكندرون السورية، فإن السياسة الخارجية التركية بانفتاحها العسكري على المنطقة العربية تهدف إلى:
- تدمير الأنظمة المعادية لها أو المستقلة سياسيا.
- إنهاء الأزمة الكردية عبر السيطرة على مناطق اللجوء في سوريا والعراق.
- مواجهة إيران إقليميا لحساب واشنطن.
- تدعيم التحالف التركي/ الصهيوني العسكري الذي بدأ منذ 1951.
- حرب المياه ضد سوريا والعراق عبر سد أتاتورك.
تركيا والكيان الصهيوني.
كانت تركيا أول دولة “إسلامية” اعترفت بالكيان الصهيوني في 1948، ورغم محاولات إخفاء التعاون مع هذا الكيان، فإن تركيا حاولت دائما إظهار العداء للدول العربية – رغم الرفض الشعبي الداخلي- ممثلة في سوريا، وقد زار أرييل شارون تركيا في 1986، وذلك لوضع اتفاقات لمحاربة الثوار الأكراد، وقام قائد السلاح الصهيوني “هــرزي” بزيارة تركيا في 1993 للغرض نفسه وهو تقديم المساعدة لتركيا في حربها ضد الأكراد، الذين تساندهم سوريا، وزار تركيا الرئيس الصهيوني “عازر وايزمن” في 1994، و كانت تركيا قد أبرمت عدة اتفاقات عسكرية مع الكيان الصهيوني في 1951 و 1958. وعندما زار وزير خارجية تركيا “حكمت تشيتين” فلسطين المحتلة، اقترح معاهدة شاملة ضد “الإرهاب” الذي تقوده سوريا، وكان أهم اتفاق عسكري هو الاتفاق الاستراتيجي الذي أبرم في 1996، والذي نص على تبادل المعلومات العسكرية، والمخابراتية، والقيام بتدريبات عسكرية طوال العام كل شهرين، وتبعتها زيارة الرئيس التركي “سليمان ديميريل” إلى فلسطين المحتلة، وكان الهدف من الاتفاق بالنسبة لتركيا مواجهة سوريا، وإيران، وقد وصفت الجامعة العربية هذا الاتفاق بـ “حلف عدواني جديد” ضد الدول العربية، كما أكدت القمة العربية، ذلك في مؤتمرها بالقاهرة في يونيه 1996.
الــمـــلــف الـــسوري الــتــــركــي
احتلت سوريا لحوالي أربعة قرون من القرن السابع عشر حتى بداية القرن العشرين.
وفي سنة 1920 ، فرضت تركيا تقسيم سوريا إلى 4 دول: 1- حلب 2- دمشق 3- اللاذقية 4-جبل الدروز، بينما فرضت الحكم الذاتي للأسكندرون الذي استولت عليه فيما بعد، لكن السوريين كافحوا لتوحيد البلاد في 1936، وبقيت منطقة الاسكندرونة محتلة من طرف تركيا إلى الآن، ولم تكتف تركيا بدلك بل قامت ببناء سد أتاتورك وهو ثالث أكبر سد في العالم بعد سد باكستان “تاربيلا” وسد “فورت بيك” في الولايات المتحدة، وقد استغلت تركيا الخلاف بين دمشق وبغداد، والحرب العراقية الإيرانية، منتهزة الفرصة لبناء يد أتاتورك ومنع مرور المياه إلى البلدين مستقبلا، واستخدامه لأهداف سياسية، بل صرح المسؤولون الأتراك أن العرب عندهم النفط ونحن عندنا المياه، ولما كانت مياه الفرات 90 % منها تنبع من تركيا، فإن احتياجات العراق وسوريا من الماء، أصبحت في يد تركيا، خصوصا في سنوات الجفاف، وقد استعمل سلاح الماء من طرف تركيا والكيان الصهيوني ضد سوريا وفلسطين خلال السنوات الماضية، وهو عنوان الحروب المقبلة.
لقد خرقت تركيا الاتفاقية الدولية، خاصة ميثاق الحقوق والواجبات الاقتصادية، الذي أعلنته الأمم المتحدة في 1974 باستيلائها على ماء الفرات، الذي تستخدمه في إطار التعاون الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني لسنة 1996 ضد الأعداء المشتركين وخاصة سوريا والعراق، وجاءت قضية سفينة مرمرة التركية التي كانت في طريقها إلى غزة المحاصرة، والتي هاجمها الجيش الصهيونين وهي محاولة تركية – مع التأكيد على حسن نية أغلب ركابها– لاكتساب جماهيرية في العالم العربي عبر الادعاء برفض حصار غزة وقضية المطالبة بالاعتذار والتعويضات، رغم أن الأطر العسكرية الصهيونية تقف بصواريخها على الحدود التركية السورية، تنفيذا للاتفاق العسكري بين أنقرة وتل أبيب. إن قضية مرمرة ليست إلا محاولة إعلامية، لإخفاء الحقيقة المرة للنظام التركي في علاقته مع واشنطن والكيان الصهيوني، والأمر مجرد ادعاءات، إذ الهدف تدمير سوريا وحلفائها، وتهيئ الظروف لضرب إيران النووية. وفي ذلك هزيمة لأعداء تركيا، خاصة دمشق التي ارتكبت خطأ قاتلا يتمثل في عدم التوازن الاستراتيجي الذي طالما دعت إليه فالأخطاء تفوت والنتائج تبقى.
*باحث
ـ الصور من الأرشيف ـ