من مونتريال كتب : الحافظ الزبور
أنهيت رواية “تغريبة القافر ” للروائي العماني زهران القاسمي . الفائزة بجائزة “البوكر العربية “2023…وسأصلكم بعجالة لبعض مفاصل فهم ولد متسرعا…اعتبره انطباعات أولية…
بعض من الحكي :
في قرية نائية مريم بنت حمد ابن غانم ، زوجة عبد الله ابن جميل فاجأها حبل الدلو ، فهوت إلى قاع البئر ..أخرجوها جثة هامدة ، عند الغسل والتكفين …سمعت دقات حياة في بطنها ..واتتشلت القابلة الولد بعد شق البطن بسكين ..القابلة كادية بنت غانم هي من تبنت الولد وأطلقت عليه لقب “الغافر ” …وسمته سالم ابن عبدالله ابن جميل … كان سالم يستمع إلى أعماق الأرض …و يحدد منبع المياه …كان مثار سخرية من اقرانه ..ومن أهل القرية بعد ما اشتد عوده …فتحول إلى منقذ إلى قريته والى القرى المجاورة..عندما داهم القرى القحط والعطش…ذاع صيته ..واصبح “القافر ” الذي لايشق له غبار ولامنافس له في الانصات إلى الاعماق …فيصرخ منذ صغره إلى كبره باللازمة : ” الماي ..الماي …
مات والده تحت انقاض الحفر ..وجرف السيل “الغافر “نفسه …
شئ من الفهم :
ثنائية الحياة والموت /القحط والخصب …وساطة الماء …كتيمة لردم الحفر بين الثنائيتين :
بين الموت والحياة والموت …جرف سيل السرد (السارد العليم ) اشتاتا من حكايات ..في فضاء مغلق / القرية…بأدوات السخرية والتوجس …فضاء يقارع اليومي و يسمم العلاقات ، ويؤمن بالخرافة والعين والسحر والجن ..واللعنة عامة …لكنه في المقابل يؤمن بالقوة والأمل و الطموح والاستقلالية …و يتيح مساحات وبؤر للعشق والوله …أمام شظف العيش و رعونة الطبيعة وقحطها ، يخفي هذا الفضاء / المكان العدواني عموما …مراتع العفة والبذل والتضامن والاكتفاء…كأصل إنساني باق ومتأصل ..قيم غيرتها رتوشات مانعة للانسجام والتضامن…
بعض من هذه القيم تؤثث انسيابية السرد وتهيئ تطلعاته للحسم في المواقف الوعرة وتحدي الملمات و النوائب…و البحث عن بدائل مشرفة ولطيفة ، عندما تسود الخطوط وتحاصر الهمم …
يمتثل السرد (السارد العليم ) لدعم مجاراة القفز فوق هبات الحياة المعتمة ، وتجاوز مراوغات الدهر في زعزعة الطمأنينة والحياة العادية ، الهادئة التي تتطلع إليها معظم الشخصيات ابتداء من مريم ام سالم الهالكة مرورا بآسيا مرضعة سالم والقابلة كادية مربية سالم و عبدالله والد سالم / الغافر و زوجة سالم نصرا بنت رمضان وسالم /الغافر نفسه …وود عامور الوعري.. ( الذي اخرج جثة مريم من البئر )… الحياة المنسابة وان برخاء مضغوط ، حولها الزمن والدهر و المصادفات والمرض وسوء التقدير …إلى “هباء ” و “غشاوة “و كوابيس مأهولة بالعدوانية و الالغام فجرت على الرؤوس أساسيات الطمأنينة و حولتها أشلاء من الصعب لملمتها …بل تحولت بغتة إلى “خراب وجودي ” بكل دلالات “المحو الوجودي “..الشقي الغادر و المتلف ل”كونفور الوجود ” تجاوزا …وان علمنا منذ الافتتاح الى الاختتام ،أن هذا الوجود أصلا سيكون مهزوزا و غير مغر من سماته ومعابره ((القحط و امتددادات اللعنة ) …
منذ بداية الحكي إلى نهايته ، لم تتوقع انتظاراتنا الا “العبث “و سيادة القهر و النهايات المأساوية …وبين البداية والنهاية ، تتساقط بعض البدائل الخفيفة المتمثلة للفرح و الانتشاء ، عن طريق اغراء “الماء “كرمز اسطوري ، سحري ك”ترياق ” مداوي لللعنات ومخلص من مزالج الأبواب الموصدة نحو الطمأنينة ..
تيمة “الماء “بشفراتها الموحلة والمقرفة (سقوط مريم في البئر ) والمضيئة واللآتية بالأمل و الفرح (حكاية القافر ) ..القافر المنقذ من الهلاك …وقدراته الفائقة على الانصات ..الانصات للاعماق بمختلف تجلياتها الطبيعية… والإنسانية… رغم أن هذا المنقذ / الغافر تحول إلى ضحية البحث عن الطمأنينة الزائدة والاستقلالية المتأمل منها للتخلص من ضغط “حفنة بشر ” ..تجعل من “الحبة قبة ” كما يقول المغاربة وتسرب التراهات و الإشاعات المغرضة إلى درجات “العزل “والتهميش عن “الجماعة “كعقاب غير مؤسس للاصول … بقدرماهو ملمح للضغينة والسخربة الممنهجة لتبديد الانتماء نحو الاقصاء الشامل …
تمر كل متواليات الرواية بحفاوة لغوية منسابة ودافقة و لينة وبسيطة بتفاصيل زائدة و مبالغ فيها في نهاية الرواية …لعكس واقع شظف ملفوف بالصفاقة والاصرار فر نفس الآن …وتحربة حياة ليست دائما خطية ومريحة …يزاوج بين طمأنينة الروح …وخلجان اغوار واقع منبوذ و قاهرة ليس اقل وسائله الفتاكة :سوى المحو وتمظهراته ..