‏آخر المستجداتلحظة تفكير

فريدة بوفتاس: “دروب كازابلانكا” رواية عن جسور أحلام معلقة

لابد قبل البدء من تقديم شكري العميق للاستاذة الصديقة عائشة لخماس والرفيقات في اتحاد العمل النسائي ، الذي لا يني جهدا في نشر ثقافة الوعي وإحقاق الحقوق النسائية ، وعلى رأسها المساواة والعدالة الاجتماعية والمجتمعية .
والشكر موصول لكل من ساهم في لمنا هذا اليون من أجل تبادل فكري وانساني وثقافي على ضوء هذه القراءة المتواضعة لرواية “دروب كازا بلانكا” للروائية العزيزة والصديقة ذ عائشة العلوي لمراني ، والتي أتمنى أن تكون قراءة في مستوى هذا الابداع الجميل .

حين دعتني الاستاذة عائشة لخماس مشكورة لهذه القراءة ، سعدت بها أيما سعادة ، نظرا لانني في تلك اللحظة ، كنت في خضم قراءتها للمرة الثانية ، وطبعا حين نقرأ من اجل المتعة لا نتقيد بقيد الملاحظة ، وإعمال التأمل وطرح الاسئلة ، بل فقط نلبي رغبات في المتعة ، ونسد الطريق على كل تشويش عليها حتى ولوكان تأملا او تحقيقا او تدقيقا في المعاني .
لكن ، بمجرد أن أبلغت بهذا الطلب تحول الاهتمام إلى قراءة مختلفة ، أكثر التزاما وأقل حرية ذاتية ، في استجابة لإغراء المعاني الثاوية وراء حكي جميل عن دروب كازابلانكا .
ولا أعتقد ، بل أجزم مسبقا أن قراءتي هذه ستكون قراءة عالمة ، كذوي الاختصاص ، بقدر ما ستكون قراءة عاشقة لها، مع الحرص على إثارة ما يشغل الراوية ، ويشغلنا جميعا من قضايا ونبش في واقع نشترك جميعا في تحمل تداعياته علينا وعلى وجودنا كنساء أولا ، وكمواطنات ثانيا ، وكحالمات بالتغيير للافضل ثالثا .

“دروب كازابلانكا” هو العنوان الذي اختارته الروائية عائشة العلوي لمراني ، وهي رواية تقع في 212 صفحة مقسمة الى فصول ، كل فصل يربط في انسجام تام مسار احداث الرواية ومجالات الحكي داخلها ، ويؤثت فعل السرد المسترسل بجمالية وكثافة ، تفرض على القارئ والقارئة اليقظة والانتباه من اجل بلوغ النهاية او النهايات .
وهذا يسمح بقراءتها من زوايا متعددة الابعاد ، بدءا من العنوان الى آخر فصل .
ولعل ما يثير القارئ في البداية هو العنوان نفسه المحفز على التساؤل :
لماذا اجتمع في العنوان لفظ دروب باللغة العربية ولفظ كازابلانكا الاعجمية ؟
فهل يعني هذا رغبة الكاتبة في الكشف عن ثنائية ما ، عبر ألفظ ومفاهيم تخللت مسار ذاكرة الكاتبة ؟
كيف تستعيد الكاتبة ذاكرتها ؟
ماهي الصورة التي كونتها عن ذاتها وعن العالم وعن الآخر ؟
ما هي الاضافة التي تأتي بها في مجال أدب السيرة الذاتية ؟.

من خلال مضمون الرواية المتدرج ، يجد القارئ إجابات عن سؤال بخصوص الثنائية المثارة التي تخللت الرواية عبر ألفاظ ومفاهيم تشكلت حاملة موقفا بخصوص الذات ، العالم ، الاخر .
وكان اللجوء الى حجة التقابل وأيضا المقارنة المكثفة لوضعيات وسلوكات وانماط عيش بين واقع الشخوص في الواقع المغربي ، وواقع مخالف هو واقع المجتمع الفرنسي ، ينحو بنا هذا الى العديد من القضايا الاجتماعية والقيمية والواقعية التي تحضر مجتمعة في حوار مع تاريخ قبل وتاريخ بعد .

من بين الالفاظ المعتمدة كأساس في النص الروائي نجد لفظ الدرب ، إنها دروب قديمة مثل درب البلدية ، دروب المدينة القديمة الى جانب درب الاحباس دروب ” منها ما يختصر الحضارة الاسلامية بنكهة شامية وبقايا عشق للفردوس المفقود “حسب الكاتبة .
حي الاحباس العتيق ، المدينة القديمة وراء السور في مقابل المدينة التي يقطنها المستعمر (فيلات ، عمارات ، نوافد واسعة ، دور سينما ، مسرح …)

لمفهوم المكان ثقل كبير في الرواية حيث كان محملا يحيل على ذاكرة قوية ، ذاكرة تعطي للتاريخ حضورا كثيفا وأساسيا في تشكيل وجود الذوات ، وأيضا في سيرورة الشخوص مع ربط جد محكم ومحبوك ، بين ما يجري من أحداث وما ينجم عنه من تأثيرات على المستوى الاجتماعي الاقتصادؤ القيمي والنفسي لهذه الشخوص .

كذلك فضاء الحديقة ، مكان دحرج فيه الاطفال كراتهم ولعبت فيه الفتيات ( مالا ) ومسرح الحلقة وحكايات الازلية في الأماسي ، ومنصة الخطابة عند رجوع محمد الخامس لتحية المقاومة وشهدائها ،لتصبح الحديقة فيما بعد الزمن الجميل ، عجفاء”انبتت أرضها المتربة مقاعد اسمنتية أصبحت ملاذا للمشردين وأسرة لنومهم ، وملاذا للمنحرفين .”

اما المدرسة فكانت مدرسة الريف الابتدائية المتواجدة بدرب البلدية ، وهي من بين المدارس التي انشأتها الحركة الوطنية لتلقين ثقافة يغلب عليها الطابع السياسي الوطني والقومي ، والذي يدخل ضمن استراتيجية مقاومة الاستعمار
” غير أنها تنفتح في الوقت نفسه على أدبه وقيم الثورة الفرنسية خلال حصص اللغة الفرنسية التي تستحضر من الفصل الرابع في درس la rècitation قصائد بإيقاع راقص يبعد آذاننا الفتية عن الإيقاع الرتيب لقصائد التفعيلة العربية وتجعلنا في خفة الريشة نتمايل فوق مقاعدنا ، وهكذا احببنا فرنسا وكرهناها زادت جرعة الحب في حصص الفلسفة ودرس الوجودية ونحن نتعلم على يدي جان بول سارتر ، والبير كامي أن الحرية هي القضية ، والحرية أن نكون كما نريد ان نكون اولا نكون .”
ربما كان هذا عاملا كافيا يجعل الروائية تفكر في الالتحاق بشعبة الفلسفة ، لولا ظروف الاسرة والارتباط بها ( الام والاب )التي جعلتها تغير وجهة تخصصها صوب شعبة اللغة العربية .

الجامعة كفضاء للمعرفة وايضا للتكوين السياسي بامتياز ، ومجال انتقل اليه الصراع المجتمعي والايديولوجي ( جامعة محمد الخامس بالرباط )، و(ظهر المهراز التي كانت ثكنة عسكرية لتقام فيها اللغة العربية التي حسب الروائية تم نفيها الى فاس ” انصاع طلبة اللغة العربية وآدابها لنقل أغلبهم ونفيهم نتيجة نشاطهم /ن السياسي الذي بلغ ذروته في منتصف الستينات .(ص17).

نجد أيضا حديثا مثيرا عن الذات /الهوية التي تقاسمتها في الرواية شخصيتان :
احلام وهاينة ، هاينة الاسم المستقى من مجال الخرافة لتحمله احدى بطلات الرواية ، التي هي صديقة الراوية ” والتي وجدت فيها صفات تجعلها أقرب الى الشخصية الروائية ، فهي مخضرمة الحيين ، البلدية والاحباس ” هل تسمحين بفسحة من وقتك تخبرينني فيها بما أجهل من حياتك ، ابتسمت “تريدين حياة لها بداية ونهاية مثل ألافلام ،ولبداية وكل نهاية بداية جديدة “ص13.

هوية تقاسمت وعبرت الاحداث بكل جزئياتها ( سكن ، تمدرس ،مواقف جريئة إزاء كل ما يحدث في العالم وبخصوص الاخرين الذين تمت مصادقتهم خلال رحلة حياة :
من أب يحن لجذوره ، وأم تلازم كالظل الطفلة والشابة في تفهم كبير ، المعلم القدوة للاستاذ ، لتجربة حب مستحيلة ، وزواج فاشل يملأه العنف الرمزي والممارسات الحاطة من كرامة المراة .
“هكذا تخوننا الابواب تسلم نفسها بسهولة ، يكفي ان تغير القفل لتصبح مطرودا من بيتك ، عندما كنت أستمع لشكاوي النساء المهددات وأبناءهن بالتشرد ، لكون الزوج غير قفل الباب وبعث بورقة طلاق عن طريق عون قضائي ، لم اكن أتصور يوما ان يحدث لي ذلك ” ص23.

أحداث كشفت معدن الشخصية ( بطلة الرواية )وكشفت معها اهتمامها ونضالها في معارك القضية النسائية التي من خلالها كانت تفضح عمق مآسي النساء ( نموذج رابحة التي كانت زميلتها في المدرسة والتي لم تتابع دراستها لتتحول الى خادمة في البيوت ” اذهبا وقولا للمدرسة أن رابحة لن تعود لانها تساعدني في تربية اخوتها وأغلقت الباب بشدة ” ذاك كان قول أمها وهي تخاطب صديقتها التي انشغل بالها على رابحة بعد غياب عن المدرسة ” رابحة من ضحايا ما أطلق عليه لاحقا الهدر المدرسي ، تلميذة نجيبة بدليل أنها لم تكن ترسب .. ..لم تستفد من قانون اجبارية التعليم ، ولم تسعفها مؤسسات حماية الطفولة التي لا وجود لها ، فاستسلمت لقدر صنعه وضعها الاجتماعي وساهمت في تكريسه الوضعية الدونية للمرأة”

وبدل ان تسلم شهادة تخرج جامعية “كان والدها يوقع عقد
“تسليمها الى شخص يسحبها لتعيش مع أمه في غرفة في فندق البشير “.

كذلك نجد أن مفهوم الجسد قد ظهر بقوة هنا في الرواية كجسد انثوي ممزق بين ثقافتين ، إحداهما أصبحت بعد الثمانينات تعبره مجرد عورة ، واخرى نهلت من ثقافة غربية /فرنسية كانت نموذجا مشتهى من خلال الممثلة الفرنسية بريجيت باردو الذي يدعو أجساد النساء الى كسر الاغلال الصدئة .
جسد لم تفارقه الرغبة في إشباع لم يتأت له ان يتحقق بحكم الاكراهات الثقافية التي تشحن بها الفتاة عبر تنشئتها الاجتماعية والتي يحضر فيها الفقيه والموروث الثقافي الذي يقيم حدودا وموانع باسم الفضيلة .

يتمظهر هذا بشكل جلي في حديث بطلة الرواية عن الاستاذ فاضل ( استاذ جامعي )الذي كان يرمز هنا الى شعور حب جارف ، وعلاقة انسانية لم يكتب لها كعشق ممنوع ان تسير في اتجاهها المرسوم لها بالطبيعة ” وعانقني فألقيت رأسي على كتفه ، تمنيت لو أصبحنا جسدا واحدا بلا ملامح بلا خطوط ولا حدود ولا خرائط ، اشتعل الصدر دفئا ، فنقر النورس بقوة قشرة البيضة …رفرف في صدري …خفق قلبي بشدة ، انتفضت واقفة “ص75.
هي علاقة بين ذاتين تنتميان الى نفس الثقافة المغربية العربية الاسلامية ، لكن اللقاء في فضاء جغرافي مخالف تماما ( ثقافيا ، سياسيا ، قيميا ….) افسح مجالا جد واسع للحرية ، التي كان للذكر فيها حظ أوفر ، في حين لم تنج المرأة من رواسب ثقافة تلعن جسدا انثويا يبحث عن لذة مرغوبة .
الانسان ، يظل يحمل معه حتى وإن غير الامكنة كل حمولات ثقافته المتجذرة ، حتى لو اراد التباعد معها حين تخنقه وتلغي ماهو طبيعي فيه .
هذا ما جعل البطلة ( هاينة /احلام ) لا تستجيب لنوازع الجسد ، لتكون سلطة ثقافة دينية أقوى وأشد عليها ، مع تحسر مرير وأيضا مع وعي كامل بحقيقة ما يحدث وما يعاش .

رجوعا الى استلهام الخرافة من طرف الروائية ، ( ومنه اقتبس اسم هاينة ( البطلة )، حالنا كقراء على تمثلات متداولة لدى العامة من الناس ، بخصوص وجود كائنات اخرى تقاسمنا الامكنة ، ولم لا الاحداث أيضا ، كانت الخرافة من بين البؤر التي اقتحمتها الروائية بهدف الكشف عن جانب آخر من ثقافتنا التي نجحت في ابراز تنوعها في كل عناصرها ( مطبخ مغربي ، أثاث مغربي ، الحمام ذو الاصل التركي لكن بطقوسه المغربية التقليدية خلال الاحتفالات والاعراس…، دون نسيان الجسد وكيفية الاعتناء به بشدة واتقان قصد تسليعه ، في تقابل مع تصورات ثقافية اخرى استطاعت ان تطور نظرتها اليه بشكل جد ايجابي .

لاتنسى الروائية وهي تستحت ذاكرتها ، القضية الفلسطينية التي عبرت أكثر من مرة عن تعاطفها وتعاطفها ككل المغاربة معها بدون قيد اوشرط ، مع كشفها لقواعد لعبة قذرة لغرب متوحش .

وكان للبحر كفضاء فسيح سمح للروائية ان تتخده جليسا لها ، تلجأ اليه وتبث له خوالجها ومعاناتها وآفاق احلامها ” يملأ البحر صباحاتي وهي تنوء اليه من بعيد حيث ضريح عبد الرحمان المجذوب الذي شاركته أضرحة أخرى الذكرى وفق ما استلزمه الحكي ، مع اهتمام دائم بالبعدين الثقافي /التاريخي .
الجسر كمعبر وكمجال يفصل بين دروب عاشت احداثا ، وعبرته ذوات جمعها احيانا حسها الوطني المقاوم للاستعمار .او تفرقت فيها سبلها وهي تعيش لوحدها في عزلة تجربتها الوجودية المتفردة .
جسر بين ثقافات ، احداث ، ذوات ، طموحات واحلام منها ما تحقق ومنها ما تلاشى خارج الجسر ، بعيدا عنه الى غير رجعة.

ولم يفت الكاتبة استشراف المستقبل من خلال مشروع المؤسسة المغربية للنشر الرقمي والورقي، الذي كان من بين احلامها ، والذي تعهدته هبة ابنة رابحة ، كنموذج للفتاة المغربية التي حققت نجاحا وتسلقا اجتماعيا بفضل العلم والمعرفة ، وكان عربون وفاء لاحلام التي رحلت عن عالمنا بعد اصابتها بمرض عضال ، والذي كشفت لنا الروائية عن معاناة كبيرة وهي تقاومه . في تضامن وتعاطف مطلق معها يكشف جانبها الانساني الجميل .

مجال القول هنا مفتوح بخصوص هذه الرواية التي تحظك كقارئ لكشف الكثير مما احتوته من تصورات وافكار ومواقف، وتجعلك ان تنبش اكثر واكثر ، كما تنعش لديك الحاجة الى طرح الاسئلة متعقبا اجوبة من وحي قدرتك على الغوص في ثناياها .
وهذا ما يشفع لي كقارئة عاشقة رغبتي في طرح التساؤلات التالية :
لماذا ارتأت الروائية هذا الحكي المتأرجح بين ماض وحاضر وحلم مستقبل؟
لماذا حركت الدروب كأمكنة عصارات حياة ، وواقع وتاريخ ؟
هل وشم الذكرى يقبع في الذوات ام في الوشم الذي خلفته كل الدروب الناطقة بالعيش؟ .
كيف تتمخض الدروب عن حكايات نساء ونساء بانسياب ، وتجف عن حكايات الرجال ؟

أليس هذا مؤشرا قويا على ايمان الروائية بقضايا بنات جنسها ، وتمسكها الضمني والصريح بتعرية معاناتهن الضاربة في المسكوت عنه ؟

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button