لا أدري لماذا تذكرتها اليوم ؟
كانت (س) تتقاسم معي فصول الدراسة في المرحلتين الابتدائية والاعدادية ، كانت لطيفة مسالمة ، مقارنة مع باقي زميلاتنا .
الاخريات اللواتي لم ينعمن بنفس هدوئها وذماثة أخلاقها . لم أكن أنتبه اليها من قبل، ولا كنت أعرف عنها شيئا ، إلى أن حصلنا على الشهادة الابتدائية ، وكان علينا الالتحاق باعدادية تبعد عن مدرستنا الابتدائية كثيرا ، ورغم صغر سننا الذي لم يتجاوز الحادية عشرة سنة ، كان علينا استعمال حافلة النقل العمومي التي كانت مكتظة على الدوام خصوصا في أوقات الالتحاق بالعمل أو الدراسة، من طرف مستعمليها ، الذين حشرنا نحن التلامذة معهم /ن حشرا.
ذكرى جد سيئة والتي يصعب علي نسيانها ، حتى إنني بت أكره الأحياء التي كانت تمر منها :
مقابر مختلفة الاديان ، دور صفيح ، إحياء هامشية …..مرور متعسر ..
كان باستمرار سببا في وصولنا متأخرين سواء إلى الاعدادية ، أو رجوعا إلى بيوتنا ، محنة لا تنسى ولا تغتفر .
كان الواحد منا يأتي مع الساعة السابعة صباحا ، متأبطا حافظة كتبه المدرسية يأخد له مكانا قرب محطة الحافلة ، إلى أن تأتي محملة بعشرات الراكبين الذين نحاول جاهدين أن نجد لنا بينهم مكانا نقف فيه حتى نبلغ الثانوية ، لنغادرها ونحن نلعن العالم بكل مافيه ، كانت الأجساد النتنة تلتصق بنا ، والتي أحيانا لا تكون صافية السريرة ،كنا نخشاها ورغم صغر سننا كنا ننجح في درء كل خطر عنا ، بكل براءة وعفوية وثقة في النفس .
الحياة مدرسة ، نعم ، لكن ، دروسها المقيتة أحيانا تشعرك بالخوف من القادم الذي لا نملك له مفتاحا ، والذي ليس لنا منه مهرب . كما تملؤك أيضا بالرضى لأنك اجتزت اختباراتها اللئيمة وأنت تحصي عدد أنفاسك ، وتسر بينك وبين أناك أن عليك المضي في محاولة هزمها ، وأن لا تدعها تسجل انتصاراتها عليك .
في المرحلة الإعدادية ، كنا ساعتها قد دخلنا معترك المراهقة ، فكنا نتفنن في الاهتمام بمظهرنا الخارجي ، نحاول أن نكون في أبهى صورة وشكل ، نصفف شعرنا وفق الموضة ، ونرتدي لباسا قصيرا نسبيا، هو الذي لم يكن مريبا ، ولا عيبا، ولا محرما ، فتيات. فتيان في عمر الزهور ، لكن ، استدخالنا ثقافة محافظة جعلنا ونحن غالبية ، نتقن الانضباط باسم الأخلاق الحسنة لما يفرضه علينا المجتمع ،من طمس كامل لما يمكن أن يمر بنا من شعور أو إحساس اتجاه بعضنا البعض .
كان شكلنا البراني على هيأة غربية ، لكن ، دواخلنا كانت تنتمي إلى عوالم مغايرة تماما لكل ما يظهر وينجلي .
كنا النحن وننشد الآخر ..
كنا التقليد والمحافظة ونتوق للتغيير .
كانت زميلتنا (س) دائمة العناية الفائقة بمظهرها الذي كان لا فتا للنظر ، كانت أزياؤها أوروبية رفيعة ، تنوراتها القصيرة جدا ، وجواربها الطويلة المختلفة الالوان والتطريزات ، سريداتها المتفنن في أشكالها وألوانها ، أحذيتها الكثيرة العدد، متعددة التصميمات والألوان ، قصيرة ، متوسطة ، طويلة من فوق الركبة …
كانت عارضة أزياء بامتياز !
علمنا فيما بعد أن والدتها كانت تشتغل عند أحد المعمرين ، وكانت تحمل إليها ما “تجود به الأسرة عليها من عطايا ” .
كانت (س) تحمل نظارات تدل على ضعف حاد في البصر ، تسير الهوينى ، طيبة المعشر ، لا تتحدث إلا بصوت خفيض ، محبوبة .. لدينا جميعا ، لكن كل ما ذكرته ، وما تذكرته لن يجعلني أنسى شعرها الأسود المتهدل على كتفيها ، والذي من شدة سواده ، يفضح القمل الذي كان يطرزه جيئة وذهابا ، الأمر الذي كنا نتعجب له ، ويجعلنا نحرص على عدم الاقتراب كثيرا منها مخافة انتقاله إلينا ، كنا نأخذ مسافة بيننا وبينها ونحن نتحدث إليها .
لا أعلم إن كانت قد استشعرت ذلك منا ، ولكن ، يمكن اليوم أن أقول أنها كانت محرجة مما يحدث ، حتى وإن لم ينبس أحد منا بكلمة في هذا الخصوص .
إلى أن حدث ذات يوم ، ونحن في حصة اللغة العربية ، وبينما الأستاذ يقوم بشرح الدرس ، إذا بنا نفاجأ بصراخ إحدى زميلاتنا في القسم ، وهي تحاول أن تغادر طاولتها صائحة :
فوق الطاولة ، هناك قمل ، هناك قمل .
لن أجلس في هذه الطاولة يا أستاذ !
توقف الأستاذ عن اعطاء الدرس ، وحاول تهدأتها ومعرفة ما جرى ،
التفت جميع من في القسم إلى حيث تجلس هي و( س) ، التي اصطبغ وجهها بحمرة و انهمر دمعها في صمت .
ساد في القسم صمت من نوع ٱخر ، قطعه علينا الأستاذ وهو يطلب منا أن نسجل تاريخ اليوم ، عنوان الدرس ، وننقل ما سيكتبه على السبورة :
“المضاف هو كل اسم أضيف إلى اسم آخر ،والاول يجر الثاني ، ويسمى مضافا ، والمجرور يسمى مضافا إليه، والمضاف إليه، فهو كل اسم نسب إلى شيء ، بواسطة حرف جر لفظا أو ظرفا أومعنى .”.