كثيرا ما كنت وغيري يسمع قولا مأثورا ، تداولته الألسن بعد أن ٱنشقت، وانكسرت نفوسها التعبة :
ـ “الله يخرجنا من دار العيب بلا عيب “.
صغارا، وشبابا لم يكن وقعه في ٱذاننا يمر إلا كسراب ، لكنه ، ومع مرور الوقت ، بدأ يأخد حيزا في أذهاننا ، كلما مرت بنا أو بغيرنا تجربة ما ، توقد فينا إحساسا يسكننا ، بأننا ذوات مهما بلغت من القوة ، فهي أضعف مما يمكن أن تتخيله .
إحساس كامن لا يفصح عن ذاته ، إلا كانطباع مرير عن محدودية قدراتنا ، التي قد يحدث أن تكون جبارة أحيانا ، وقد توسوس للبعض بالتحول إلى وحش في هيأة بشرية ، ليتم التخلي عن هذا التجبر والغطرسة ، كلما ذاقت الذات من علقم تجربة حياتية ما ، تدفعها غالبا إلى التفكير في سلوكاتها غير المتلائمة والقيم السامية .
أن يتم اعتبار أن حياتنا في هذا العالم قد يلحقها بعض من السوء ، أو الشر ، أو النقص ….، ونؤمن أنه يحتمل عدم دوام النعم المتعددة التي نحوزها في لحظات ما ، يعني أننا ذوات “قلقة “، تخاف على مصيرها المجهول مما قد يحدث، وليس لديها صك ضمان ، يزيح عنها هذا “الأرق الوجودي “، وهذا طبعا ، لا يبلغه إلا من تعقل ، واستدخل حكمة جاد بها عليه الزمان ، ألا وهي ، أن لا شيء يظل على حاله ، كل شيء يتغير باستمرار ، وقد يكون التغيير في الاتجاهين المتضادين، فإما أن تكون من الناجين من فواجع الزمان ، أو أن تكون ممن يلسعهم /ن بسوطه بدون رحمة ولا شفقة .
مناسبة حديثي هذا ، هو أنني كلما رأيتها، كلما أصابتني ذوخة ،و أحسست بغصة في قلبي .
هي سيدة فيما يبدو تجاوزت الستين من عمرها ، في سنوات قريبة خلت ، كانت تبدو كأي امرأة تعتني بمظهرها الخارجي، ترتدي لباسا عصريا ، تضع بعض المساحيق على وجهها بشكل لائق ، تحمل حقيقة يدوية من نوع جيد ، ويبدو من مظهرها الخارجي أنها ميسورة الحال .
كنا نلتقي في الشارع، أو في بعض المتاجر ، كانت تتحدث بلباقة مع البائع ، وأحيانا تتحدث باللغة الفرنسية ، وقد تسترسل معه في الحديث عن موضوع ما يخص مجريات الأحداث اليومية .
لكن ، حدث ذات يوم ، أن تواجدنا في نفس المحل ، فلاحظت أن صاحب المتجر ، يرسم على وجهه بعض التعبيرات الدالة على تضايقه من وجودها ، وما إن غادرت هي المكان ، حتى أعقب ذلك بقوله :
ـ لا حول ولا قوة الا بالله
كان يود أن ينطلق في الحديث عنها ، لكنني لم أجاريه ، وهو اللبيب، تفطن لذلك ، وتوقف عن رغبته المزرية في النميمة .
لتمر الأيام ، وكنت كلما التقيتها صدفة ، ألاحظ أن بوادر تغيير بدأت تلحقها ، إذ بدأ مظهرها الخارجي يتغير تدريجيا ، حتى أصبحت لا تهتم به كما السابق ، فهذا شعرها غير المصفف بعناية ، وثيابها لم تظل بنفس التناسق والنظافة ، كانت تجر خلفها عربتها الصغيرة ، التي تضع فيها مشترياتها. تسير وهي تتحدث إلى نفسها ، وقد ترمقك بنظرة شاردة ، خاوية من أية دلالة .
وذات يوم ، وبينما أنا في بيتي، سمعت صوت سيدة تصرخ عاليا ، كان الصوت يخترق أذني ، وكذلك كل من مر من هناك، انتابني فضول ، كنت أريد أن أفهم ما الذي يحدث ، ثمة امرأة تصيح، إذ يحدث أحيانا أن يعتدى على بعض النساء في الشارع ، إما من أجنبي عنهن ،أاو من قريب لهن ، لم تكن المرة الأولى التي عايننت فيها الأمر المخجل والمقزز.
ما يفتأ صوت المرأة يعلو ، والمارة يتوقفون لمعرفة السبب .
لقد كانت هي، أصابني الهلع ، ما كنت أتخيل أن تكون تلك السيدة الأنيقة ، المتحدثة بلغة فرنسية سليمة ، والتي تقطن بجوار حينا ، لم أجد جوابا لأسئلتي المتلاحقة في رأسي .
وتكرر الأمر في الغد ، وبعده ، كانت تقف في الشارع لتصب جام غضبها على مجهولين ، لم أكن أتبين ما تقوله ، لأنني لم أكن أرغب في ذلك ، فهو لا يعنيني ، لكن ، ما كان ولا زال يحزنني ، هو أنها بعد أن كانت تأتي في اليوم مرة واحدة، أصبحت تداوم على الأمر حتى أكثر من ثلاث أو أربع مرة ، أحيانا في هدأة الليل .
كان شتمها لمن تعنيهم بقولها ، يتم باللغة الفرنسية ، وبالدارجة أيضا .
أصبحت مألوفة عند ساكنة الحي ، يمرون قربها دون أن يتوقفوا ، عكس غربائه الذين تستوقفهم /ن أحيانا هذه الصرخات، ليتمموا طريقهم /ن ، بعد أن أدركوا أنها صرخة من امرأة تحمل معها أثقالا لا يعلمها أحد سواها ، فتأخذهم /ن الشفقة عليها، وهم يرددون ،“الله يخرجنا من دار العيب بلا عيب “.
غريب هو الانسان !
يغترب على الدوام… حتى أنه قد يصبح غريبا عن ذاته أيضا يوما ما .
*الثلاثاء 17/01/2023