فتحت عيني وأنا صغيرة على أمي الغالية، وهي في مجلسها مع صديقاتها بعد منتصف بعض النهارات. وكن جميعهن أمازيغيات يدرن حديثهن بلغتهن الأصلية. وأحيانا يتحدثن بالدارجة ( العربية ). الأمر الذي لم يكن يثيرني ، لأنني تعودت على ذلك.
لكن حديثهن الملون بمونيمات وفونيمات تنتمي لنسق لغوي ثقافي مختلف عن النسق العربي ، كانت مواضيع هذا الحديث لا تخرج عن كونها تخص مشاغلهن اليومية كربات أسر تجتهد وتكد كي تربي أبناءها وبناتها، وفق ما اعتبرنه نموذجا مثاليا .
وكانت من بينهن السيدة محجوبة التي تميزت عنهن بولعها الشديد، بالانصات لبرنامج السيدة ليلى الذي كان يبث عبر المذياع . فكانت الجلسات بمثابة إعادة بث الحلقة لكن ، ليس على لسان السيدة ليلى، بل على لسان السيدة محجوبة . فرغم كونها كانت أمية. إلا أنها كانت تلميذة نجيبة تجيد استظهار دروسها الإذاعية المفيدة جدا ، والتي كان الفضل فيها إلى هذه الاعلامية، التي استطاعت أن تلعب دورا طلائعيا عبر الأثير .
النسوة كن متلهفات في كل لقاء لما ستحمله السيدة محجوبة لهن من جديد ، وهي تردد على مسامعهن ، افعلن هذا كما قالت السيدة ليلى ولا تفعلن ذاك .
كانت السيدة ليلى حاضرة بثقل كبير في مجلس جمع بين نسوة حرمن من فرصة التعليم. لكنهن لم يحرمن من الرغبة في التعلم وفي إجادة أدوارهن كنساء حملن هم أسرهن ، وكن تواقات إلى التغيير ولو بخطى حثيتة، حتى لو لم يدركن ذلك ربما ، لكن إصرارهن وتفانيهن المتواصل يؤكد على عزمهن الجاد والنبيل .
جلسات النساء لم تكن دائما تزخر بمثل هذا الرقي العفوي ، إذ شاءت الظروف أن تجمعني مع نساء ( أفراح ، مآثم ، دعوات هنا وهناك ، فكنت لا أستسيغ هذا الكم الهائل من أحاديث تجعلك تود مغادرة هذه المجامع المفجعة ، خصوصا حين تعرض أحاديثهن عن ما قد يحمل إليك نفعا ومتعة فكرية أو غيرها.
هي مجالس تجعلك تتأسى على هذه الطاقات التي تهدر ، مجالس تغرق في لغو ينبؤك بأن رحلتنا إلى التحضر الحقيقي ربما لا زالت لم تبدأ بعد . إلا أن للنساء أحيانا قدرة خلاقة على إبداع أحاديث و”تغريدات ” تشعرك بالاعتزاز بكونك امرأة ، وتؤكد لديك الاعتقاد الواضح للعقل وللعيان، أن النساء حين يتم تأطيرهن وتعبأتهن بشكل صحيح وجاد ، وليس استخدامهن كأصوات انتخابية. هنا سوف يتفتقن عن عطاءات مبهرة .
عاينت هذا في لقاء نضالي مع النساء المعنفات تحت إشراف AMDF، التي أعتز بالانضواء تحتها. كان جوا ملأه الشعور بضرورة الانتصار للقضية النسائية وبأولوية هذه المعركة. فهي في حقيقتها أم المعارك . كيف لا وأنت شاهد على هدر سافر لحق النساء في الحياة ، والعيش الكريم :
نساء عبرن في مجلس مفتوح على كل مظاهر العنف الذكوري ، وعلى اعتداءات فظيعة تلحق بنساء من أعمار متفاوتة ، تصل هذه الاعتداءات إلى حد التهديد بالذبح ! والصعق الكهربائي ……
كان مجلسا رهيبا يشعرك بأن علينا جميعا ان نتحرك في إتجاه صحيح يخرج نساءنا وأطفالنا من شباك عنف قاتل .
كان مجلسا ذو شجون ، لكنه أيضا كان مجلسا يتنفس برئة واحدة ، ويلهج بنفس واحد ..
ليسقط العنف المسلط على النساء .
ليسقط إلى الأبد .
كانت النسوة في تدخلاتهن يقدمن لبعضهن نصائح هي ثمرة تجربتهن المريرة. هن من كن قد عشن من قبل أحداث العنف . يتحدثن بحماسة بل هناك من حاولت وهي التي لا تملك لنفسها عونا ، أن تقدم مساعدة مالية لاخرى !
أي عطاء هذا ! وأي كرم أخلاقي جادت به نساؤنا المعذبات على بعضهن البعض ! وهن يتطلعن إلى الرفيقات المناضلات في الجمعية اللواتي يؤازرنهن بكل تفان و جدية ووعي وغيرة على مصلحة هاته الفئة العريضة من المجمتع، التي لا زالت عرضة لعديد من أنواع الظلم ، الضياع ، التهميش …وكلها شكل من أشكال العنف القاتل .
تحية للنساء ولمجالسهن التي عرفت الطريق إلى حيث الوجود الحق والكريم ، في انتظار أن يعرف المجتمع المغربي نهضة حقيقية ( نقلة ثقافية ) لتكون كل مجالس نسائنا معبرة عن نضج حقيقي بعيدا عن تفاهات كان من الممكن تجاوزها.
لو تم تحصينهن جميعا بثقافة متنورة عقلانية حداثية . إلى حين حدوث وتحقق ذلك. سنخوض معركتنا ضد كل أشكال العنف ضد النساء ، ونسلم بعدنا المشعل لكل من يسير في ركبنا نساء ورجالا لصنع غد أجمل .
فريدة بوفتاس 08/12/2024