تقرير تركيبي: مولاي عبد الحكيم الزاوي ولالة مالكة العلوي
نظم موقع كش بريس الذي يديره الإعلامي والشاعر مصطفى غَلمان حفل توقيع الإصدار الأخير للمفكر والأكاديمي المغربي حسن أوريد المعنون ب” إغراء الشعبوية في العالم العربي: الاستعباد الطوعي الجديد”، في مكتبة شاطر التاريخية بمراكش يوم السبت 29 يونيو 2024. وقد كان اللقاء مناسبة كما عبَّرت عن ذلك افتتاحية الكاتب والإعلامي مصطفى غَلمان لفتح الأقواس الكبيرة التي تشتبك مع القضايا الكبرى التي تعتمل في راهن العالم العربي من خلال ما يمكن اقتراح تسميته بالعِلَّة الشعبوية أو “الشعبوية”. يتعلق الأمر، بمنحى وليس ظاهرة إذا جاز أن نُدقق اختيار التوصيف. منحى تردد صداه في التجربة الإيطالية مع حزب “فورتزا الإيطالية” Forza Italia، وفي التجربة الأمريكية مع دونالد ترامب، وفي التجربة البرازيلية مع جاير بولسونارو، وفي تشكلات مشابهة في كل من الهند والسويد والمجر…وهي في الأساس، مُمارسة وأسلوب، وليست سردية يمكن تتبع انتظامها في متن مكتمل. وإذا أردنا أن نُدقق أكثر، يمكن القول بأنها “سردية هجينة” ترسم أحلاما طوباوبة، وتتوجه نحو دغدغة الغرائز وبعث الاستيهامات القومية، وقد يكون التوصيف دقيقا إذا ما استعرنا العبارة الآتية: “سردية نحيلة تُقوض سرديات دسمة” من المفكر الهندي كاس ماد Cas Mudde.
قرأ الكاتب مصطفى غلمان المتن الجديد للمفكر أوريد من منطلق كونه وثيقة تاريخية، أو كآلية فكرية وأكاديمية تحليلية ، لا يمكن التعاطي معها من زاوية مفردة أو مبتسرة، بل يتعين على المتتبع المنصف أن يعكس قوتها العلمية ورؤيتها المنفتحة على كل واجهات القول والتأويل، في السياقات الثاوية المضطربة والمأهولة بكل أوثاق الشك والخوف وعدم الأمل.
وأكد غلمان، على أن موضوعة “إغراء الشعبوية”، كوثيقة تاريخية، واعية بفعال الزمان واعتمالاته الثقافية والاقتصادية والسياسية، والتي عمل حسن اوريد منذ بدايتها إلى نهايتها على التمكين من ضبط ورصد وإحلال النظرية إياها، كمنطلق سوسيولوجي ومفهومي غير مسبوق، فإن واحدة من أدق المتون التخصصية في البحث والتحليل النقدي السياسي والفكرية، واقتراباته على مستوى الفهم النظري للعمليات السياسية، يضيف ذات المتحدث، ظلت تقتسم قراءتنا المندسة في سلاسة ماء وتدفق حياة، في أجمل التفاصيل التي تراوج تطوير المعرفة القائمة على التجربة وتفسير النتائج والحدس الأكاديمي الخلاق..”.
والكتاب في مبناه كما يؤكد المفكر حسن أوريد جرس إنذار مُبكر يستشعر احتمالية حدوث هزات ارتدادية عنيفة، وتسرب خطابات سياسية مسمومة تتهدد سرديات الاجتماع البشري. يُدافع أوريد في معرض حديثه عن الكتاب عن كون الشعبوية هي ممارسة ومنظومة عمل وِفق التعبير اللاتيني Modus Operandi للدلالة على أزمة متعددة الرؤوس، وحالة من حالات الارتباك السياسي التي تنتعش في اللحظات التي يتسع فيها الانفصام الاجتماعي ويتردى الوضع الاقتصادي لترسم بذلك “عالم الكآبة الوجودية”، والاستعارة هنا من ايفان كراستيف Ivan Krastev الباحث الأمريكي ذي الأصول البلغارية. لكن الخطر الذي يصاحب انتعاش خطابات الشعبوية ينصرف نحو تضخيم خطابات الهوية والعِرق والتاريخ…وحتى تتلبس الشعبوية بلبوس علمي، يقترح المفكر حسن أوريد -في معرض تقديمه للكتاب- أننا يتوجب أن ننتبه إلى تفصيل مجهري في التحليل، يقتضي أن نقوم بفحص اكلنيكي لجسم معتل، لحالة يُمكن أن توسم ب”القحط السياسي” كما اقترح السوسيولوجي الجزائري ناصر جابي. وأن نعتبر الشعبوية جوهرا وليست عَرضا، ليست قوسا صغيرا ضمن مسار يمكن أن يُغلق، بله قوس طويل وممتد يستوجب ترسيخ كفايات المتابعة النقدية. كان المنطلق، يقول أوريد، التفكير في حاضر العالم العربي، وانطلاقا من مقولة للرئيس الأمريكي باراك أوباما التي اعتبرت العالم العربي عالما مُنغلقا وعصيا عن التغيير. لكن، هو أيضا، حلبة تنافس دولي شرس، وجسم حي تعتمل داخله ديناميات متحركة،
وقد يُفيد الإقرار أيضا، القول، أننا إزاء عالم بكيمياء سياسية خاصة، عالم وحيد لا تختار فيها شعوبه حكامها، وبالمقتضى نفسه، يُجري أوريد تحليلا موازيا، حين يشير إلى أن الغرب أيضا لم يواكب المطلب الديموقراطي في العالم العربي، على النحو الذي واكبت فيه الولايات المتحدة الأمريكية أوربا الغربية ودول شرق آسيا بعد الحرب العالمية الثانية في سياق ما يُعرف عند الجميع بمشروع مارشال الاقتصادي. يعتقد الغرب، أنه لا يجب أن نستثمر في شيء قد يؤول إلى نتائج درامية، لكن الغرب، يلتصق بهذا العالم من خلال مصالحه، ومن ضمنها ضمان أمن إسرائيل وتدفق البترول والغاز، كما يستدعي الأمر، يقول أوريد، أن نُجري مسحا تحليليا للديناميات الداخلية التي تعوق حدوث التحول، ومن بينها مؤسسة الجيش كما في حالة مصر والجزائر والسودان، والوضع الطائفي كما في حالة لبنان والعراق، والتحول الدراماتيكي الذي تسير عليه المملكة العربية السعودية من مرجعية التقليد إلى مرجعية التحديث. وقد يظهر أيضا، أننا إزاء دول غير قابلة للحياة، وأخرى فاشلة مهددة في وجودها في هذا العالم.
ينتصر المفكر حسن أوريد إلى الرؤية التي تعتبر أن الشعبوية إن هي إلا متحور عن السلطوية، تدعو إلى تمجيد الذات واللغة والعِرق وازدراء الآخر، إلى توسيع مساحات التاناتوس Thanatos على حساب مساحات الإيروس Eros كما نجده في تحليلات النفساني سيغموند فروود. تنتهي الشعبوية إلى سُلطوية في يد قائد يُعطل المؤسسات، يُقصي النخب، ينقض الديموقراطية…ذلك ما أفصحت عنه التجربة التونسية التي يمكن اعتبارها مختبر للقياس والتأمل، لقد كانت لحظة 2011 مفصلية في تونس، واعدة جدا، لكن وقع اجهاض مسار، فتمَّ الانتقال من شبه ديموقراطية إلى شعبوية إلى سلطوية. أو كما يصفها ناصف بيات ب”ثورة بلا ثوار”، أو ما يمكن أن نستعيده من مقولة الأكاديمي مروان معشر: كانت لحظة 1967 ثورة نخب بلا جماهير، ولحظة 2011 ثورة جماهير بلا نخب”. ثمة حاجة إلى لحظة ثالثة.
اللقاء شهد نقاشا مستفيضا حول الظاهرة الشعبوية في المجتمع السياسي المغربي، وتداعياتها على الثقافة والقابلية الجماهيرية، واصطدام النموذج التنموي بمآلاتها وأنساقها الخاصة. وأدلى ضيف اللقاء، بهذا الخصوص بوجهات نظر استثنائية، في موضوعات ذات أهمية قصوى، كالحوكمة، والتعليم، والبحث العلمي والجامعة، والتجارب الحكومية ما بعد الربيع العربي، ومشكلات العقل المغربي، والانتظارات السياسية المرتقبة، في ظل التقلبات السياسية الدولية والإقليمية، وتضعضع الأنساق الثقافية في المجتمع، وتيهان وجنوح التفكير والرؤى التنموية المبتسرة .. وهو مالاقى تفاعلا مع الحضور النوعي للنخبة الثقافية والفكرية بالمدينة الحمراء. قبل أن يقدم أوريد في نهاية اللقاء على توقيع كتابه موضوع الندوة.