أذ/ جليل طليمات
ـ 1 ـ
في مناخ الحزن على رحيل المناضل الكبير والقائد الاتحادي ورجل الدولة عبد الرحمان اليوسفي, تواصل ذاكرة رفاقه في الكفاح وجزء عريض من النخب السياسية والثقافية, استرجاع محطات المسار الكفاحي الطويل للفقيد والغني بالعطاء اللامحدود والتضحيات الجسام سواء في مرحلة الكفاح الوطني من أجل الاستقلال، أوفي مرحلة المعارضة للحكم المطلق، ثم في محطة رئاسته لحكومة التناوب التوافقي في شرط موضوعي، اقتصادي واجتماعي وسياسي معقد، ومنذر “بالسكتة القلبية” حسب تعبير الملك الراحل في تشخيصه لعمق الأزمة آنذاك .
وإذا كان اسم الراحل ع اليوسفي يقترن اليوم، خاصة لدى الشباب بتجربة حكومة التناوب التوافقي، وإذا كانت جل الكتابات والمماحكات والسجالات تركز في نقدها لهذه التجربة على الملابسات والسياقات التي أطرتها وتأثرت بها, وعلى حصيلتها الإصلاحية في مختلف المجالات وحدودها الموضوعية , فإن ذلك يعني شيئا واحدا هو أن هذه التجربة الحكومية, بما لها وما عليها، شكلت بالفعل, لا بالادعاء تدشينا لمرحلة سياسية جديدة ونوعية في المجال السياسي الوطني والإقليمي كذلك .
ولعل ذلك هو ما يفسر ذلك الزخم من التعاطف لدى الرأي العام الوطني والخارجي, وذلك الأمل القوي الذي فجرته والانتظارات الكبرى منها في الأوساط الشعبية, خاصة وأن الأمر يتعلق بتوافق بين شرعيتين : الشرعية التاريخية المتجذرة للملكية , والشرعية النضالية التاريخية لأحزاب الحركة الوطنية.
بخصوص الشروط والملابسات و الضمانات التي كانت وراء قرار تحمل المسؤولية الحكومية كان سي عبد الرحمان يشدد دائما على البعد المستقبلي لهذه التجربة, وعلى الإكراهات والمقاومات التي أحاطت بها من جهات مختلفة, وفي هذا الصدد، اعتبر ع اليوسفي أن من بين أهداف قرار خوض تجربة تناوب غير مكتمل ” خلق سوابق وتقاليد جديدة تتراكم لتصبح بالتدريج من أهم عناصر دمقرطة دواليب الدولة الشيء الذي يعطي لمفهوم التناوب طابعه الديمقراطي الحق. ” (من تقرير أمام اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي في نونبر 1999) .
فمنذ البداية كان سي عبد الرحمن ورفاقه في الحزب والكتلة الديمقراطية يرون بأن تصحيح ما كان يسمى بالمسلسل الديمقراطي هو مدخل رئيس لأي إصلاحات مؤسساتية وتنمية اجتماعية, مقدرا بواقعيته, حدود هذه التجربة، وغير مستبعد لاحتمالات إجهاض رهاناتها في الإصلاح والتغيير من طرف من سماهم اليوسفي “جيوب المقاومة” الذين راكموا طيلة أربعة عقود شبكات مصالح في ظل الحكم الفردي.وبكل وضوح وشفافية, رد اليوسفي في أكثر من مناسبة على الادعاءات التي تعتبر التوافق صفقة أو مساومة حزبية , و سعيا وجريا وراء كراسي حكومية , يقول في نفس التقرير: ” ماكان الحزب ليخوض هذه التجربة لولا توفر ثلاثة أنواع من الدعم , دعم الملك والدعم الشعبي، وأغلبية برلمانية مريحة”، وانتقد الراحل الرأي الذي اعتبر هذه العناصر شروطا حزبية للمساومة، أو صفقة عقدت في الظلام بين الملك والقوى الديمقراطية ممثلة في الكتلة ,مؤكدا أنها دوافع نحو تلبية واجب تحمل المسؤولية في إنقاذ البلاد من “السكتة القلبية” ومواجهة التحديات الخارجية الدولية والجهوية , وتعميق المسار الديمقراطي, ومحاصرة سلبيات المؤسسات المغشوشة التي أفرزها, وإيقاف النزيف الذي أصاب الجسد المغربي.
أما بخصوص الضمانات التي كانت محور تخوفات وتحفظات أطر ومناضلين وعاطفين وجزء عريض من الرأي العام اعتبر اليوسفي أنها ” تخوفات مبررة ومشروعة” جازما القول: ” بالفعل كانت هناك ضمانات, وكانت من أقوى الضمانات التي يمكن أن يقدمها الواحد منا لصاحبه.., والحق أني وجدت ضميري مرتاحا إلى أنني حصلت من جلالة المرحوم ضمانات أكثر من كافية بقياس تقاليدنا المرعية” بناء على ذلك , فلم تتحمل القوى الديمقراطية المسؤولية الحكومية بلا ضمانات , وبلا أرضية مشتركة متوافق عليه بينها وبين الملك , إنها لم توقع شيكا على بياض كما روج لذلك الكثيرون آنذاك , وإنما دخلت تجربة برهان التأسيس لتناوب مكتمل, أي توفير شروط الانتقال بالبلاد إلى عهد جديد , وإلى تناوب ديمقراطي مؤسس على تعددية حقيقية.
ـ 2 ـ
فماذا حققت هذه التجربة من أهداف وانتظارات ؟
لقد ظلت حكومة اليوسفي مطاردة من جميع الجهات بهذا السؤال , ولعل الأمر طبيعي لأن انتظارات الناس كانت كثيرة, تهم كل مستويات معيشهم ,ولكن اليوسفي لم يكن من أولئك الذين يبيعون الوهم للشعب إذ حرص دائما على الحديث عن حصيلة الحكومة بواقعية وشفافية وتواضع ,على مواجهة أية مزايدات، فالموضوعية ” تقتضي أن لا يصدر التقييم بالقياس مع الإنتظارات والطموحات مهما كانت وجاهتها , بل بالقياس مع الوضعية التي ورثناها والظروف والإكراهات العسيرة التي تحملنا فيها المسؤولية”، كما صرح بذلك أمام مجلس النواب أثناء رصد حصيلته الحكومية بعد شهور من تنصيبها , وهو تقليد جديد سنته حكومة اليوسفي .. وإذا كان المجال لايتسع هنا لعرض الحصيلة النهائية لولاية اليوسفي الحكومية، أكتفي هنا برصد بعض عناوينها الكبرى التي تبرز بأنها في مجملها حصيلة إيجابية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، لا يمكن أن ينكرها سوى جاحد أو مزايد, وهي كالتالي :
_ تعزيز الثقة بين المؤسسة الملكية وقوى الحركة الوطنية التقدمية ما ساهم في الانتقال السلس للعرش بعد رحيل الملك الحسن الثاني .
إن هذا المكسب بمنظور الحاضر والمستقبل يشكل عنصرا حاسما في أي انتقال ديمقراطي على أساس تعاقدي.
_ تطور نوعي في مجال حقوق الإنسان وممارسة الحريات الديمقراطية ( العفو على المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين _ جبر الضرر من طرف هيئة الإنصاف والمصالحة ..)
_خلق مناخ دولي وجهوي متعاطف مع التجربة الحكومية الجديدة , وتحسن موقع المغرب في معركته من أجل تثبيت وحدت الترابية ( أكثر من 40 دولة سحبت اعترافها بجمهورية الوهم ). _ التحكم في التوازنات الماكرواقتصادية , مع تسديد الجزء الأكبر من متأخرات الديون العمومية , وتخفيض حجم الدين الخارجي وانخفاض الفائدة البنكية ..الخ.
_إصلاح نظام التربية والتكوين , تطبيقا للميثاق الوطني , حيث تم لأول مرة بلوغ 98 في المئة في نسبة التعميم بينما كانت قبل هذه التجربة في حدود 68 في المئة , وتحسن باقي المؤشرات الكمية , والنوعية خاصة المراجعة الشاملة للمناهج والبرامج والكتب المدرسية , ومراجعة النظام الأساسي للشغيلة التعليمية ..الخ.
_إعادة الاعتبار للمجالات الاجتماعية من خلال تنفيذ مقتضيات الحوار الاجتماعي لفاتح غشت 1996. _إيلاء وضعية المرأة أهمية غير مسبوقة في السياسات الحكومية رغم مقاومات القوى المحافظة للمقترحات الحكومية بخصوص الجوانب المرتبطة بالأحوال الشخصية .
هذه بعض الإصلاحات ضمن الحصيلة الإيجابية عموما لحكومة التناوب , والتي تواصلت إنجازات مشاريعها في إطار حكومة إدريس جطو بعد نكسة خرق “المنهجية الديمقراطية” التي حرمت سي عبد الرحمن من ولاية ثانية رغم تصدر حزبه الاتحاد الاشتراكي نتائج ا انتخابات 2002 !! لقد تحكمت في هذه التجربة عدة إكراهات ,وتعرضت لمقاومات من طرف أجهزة في السلطة ومن طرف ” جيوب المقاومة”, وهو ما جعل لهذه التجربة حدودا موضوعية بحكم طبيعتها التوافقية , ومن هنا فإن أي نقد لها لا يأخذ هذا المعطى بعين الاعتبار في تقييم الحصيلة, يبقى نقدا مزايدا ,أو حزبويا ضيقا .
ولابد في ختام هذا التعريف المقتضب بهذه المحطة النوعية في المسار السياسي للفقيد عبد الرحمن اليوسفي من الإشارة إلى هاجس ظل يلازمه كوزير أول وككاتب أول للإتحاد الاشتراكي ألا وهو ” إعادة بناء الأداة الحزبية”، فقد تساءل بمرارة أمام اللجنة المركزية للحزب في أول اجتماع لها بعد تنصيب الحكومة :”أين حزبنا ومستقبله في هذه التطورات؟ ما هو الاتجاه الذي يحكم أشغاله اليوم ؟ ماهي فعالية بنياته التنظيمية وقواعد اشتغاله ؟ إلى أي حد تتجاوب هيكلته الحالية مع التحولات العميقة في بنيته الاجتماعية ؟..”مازالت هذه الأسئلة منذ 1998 عالقة إلى اليوم , وبلا رؤية . وفي غياب جواب تنظيمي “إرادوي “عليها تسارعت وتيرة الانحدار , وصدأت الأداة .. وتلك حكاية أخرى.