ـ كتب: د . مولاي علي الخاميري ـ
مدخل عام :
لما كنت أتحدث عن شعر الملحون المعاصر ، وأصرح بأن معظم شعرائه هم أدعياء في المجال ، وثقافتهم محدودة ، وإبداعهم عام ومكرر ، وجلهم ( شعراء ) بالتقليد الممل ، والمُقلِّد يُفتضَح أمره عند المقارنة ، وتظهر درجة أقدامه في أسفل السلم…..قلتُ كان بعض الإخوة والأصدقاء الذين لا يحبون سماع مثل كلامي يطالبونني بالدليل ، وهم في ذلك يفصحون عن غايتين متناقضتين : غاية حسنة تريد الوقوف على الأمثلة المُبَيِّنة للخلَل من أجل المعرفة وتدارك ما يمكن تداركه ، ويمثلون القلة ، ثم غاية ثانية وأصحابها من ذوي النيات الفاسدة ، ممن يرون أنهم فرسان الميدان الوحيدون ، وكل وصف بنقص أو همز ولمز يتوجسون منه ، ويعتبرون أنفسهم هم المقصودون ، وأن جماعتهم وأحلافهم يجب أن تتصدى للخطر المُحذِق بهم ، وبالمقابل أشهد الله على أنني لم أقل كلمة ، ولم أكتب سطرا إلا بوحي من نموذج اطلعت عليه ، بل من نماذج متعددة ومتنوعة وشاملة لكل المناحي التي خُضتُ فيها لحد الآن ، ومع ذلك كنت أترفع عن التمثيل ، لأن الهدم ، وكشف الهَنَّات ليس هو المقصود ، فالأمل لا زال معقودا ، والتجارب ينبغي أن يُفسح لها أكثر ما دام الزمن مُسعفا حتى تتجاوز بعضُ الأسماء الواعدة العثرات المحسوبة عليهم بعد أن تنضج تجاربهم ، ويُصقَل وعيهم ، وتكبر مساهماتهم ، فاكتفيت بالتذكير دون التصريح ، أو التجريح ، وهذا مبدأ يحسب لي ، ويُظهِر سلامة طويتي اتجاه الأدعياء والأصدقاء .
ومن باب الإنصاف والإجابة عن سؤال النموذج المطروح بإلحاح قررت أن أخوض في تجربة شعرية معاصرة لشاعر معاصر ، استطاع أن يربط ما بين أجيال الملحون بثقافته الواسعة ، وقوة إبداعه ، وسلامة تصوراته ، وتسخيره لشعر الملحون تسخيرا تاما ومتوافقا مع روح عصرنا ، دون أن يَشِذَّ عن مسيرة الأجداد ، أو ينفصل عنها ، أو يشوه معطياتها الفكرية والفنية تحت دوافع ذاتية سلبية ومنغمسة في متعاليات الأنا والجماعات العليلة .
شيء آخر أود أن أصل إليه عن طريق قراءة تجربة الشاعر أحمد بدناوي ، ومن باب أن المقال يتضح بالمثال لأُوقِفَ أولئك الباحثين عن الأمثلة على تجربة الشاعر المذكور ، وأرسم أمامهم معادلة إيجابية معطاءة ، وبعيدة عن التحدي والتحديد بالإسم أو الوصف ، وتقمص أدوار الخصم اللذوذ اتجاه تجربة لا زالت لم تكتمل ، ولا زال أصحابها لم يقفوا فيها على أرجلهم بثبات ، وهذا هو ما أسميته بالأمل المعقود على بعض الأسماء السائرة على نهج البناء والتجريب والاجتهاد…..أقول للجميع ها هو المثال المطلوب ، وليَقِس كل منكم ما يكتبه بنفسه ، ولتكن له جرأة الاطلاع الواعي ، والاعتراف النهائي عند المقارنة بالقصور الملاحظ ، وأتمنى أن يتسلح كل مطلع بشجاعة النقد الذاتي الإيجابي ، ويحاول أن يصلح ما يمكن إصلاحه ، ويتعرف على مكانته ومرتبته الحقيقية ضمن مملكة شعراء الملحون الأماجد ، ولن أضيف شيئا سوى تجديد دعوة التتبع والمطالعة ، والانكباب على ما يساعد كل خائض في شعر الملحون على تَمَلُّكِ الرؤية الصافية ، والمعرفة الضرورية حتى نُبقِي جميعا على نبض الحياة والتطور والتجديد داخل قصيدة الملحون ، فبدون ذلك لن نعثر على شعر ، ولن نحتفي بشاعر .
الحلقة السابعة : القراءات العملية الممكنة لقصيدة : ( هاد الموت )
التصور العملي لأنواع القراءات الممكنة والمفيدة لقصيدة : ( هاد الموت ) يؤخذ مما يوفره النص الإبداعي عموما من إمكانيات للقراءة ، وكلما كان المستوى مرتفعا ، وذا جودة عالية حصل الغنى ، وحازت القراءة على طعمها ، وتمكنت من دورانها مع المعنى والمبنى ، وَعُدَّت من مقاييس التميز المباشرة ، ومن وسائل تنشيط القرائح الأولية ، ومن سبل ربط الصلات المتعددة والمتنوعة ، وارتاح فيها القارئ ، وتمتع ، وشغف بالمقروء ، وتأثر به ، واستفاد منه استفادة عظمى ، وتكونت في دواخله ملكات إضافية ومفتوحة على مجالات الفكر والفن ، والتحليل والتذوق والنقد بشكل أوسع وأرحب ، ولا أبالغ إذا قلت إنني لمست كل ماقيل أعلاه في قصيدة : ( هاد الموت ) الواردة في ديوان : ( قال يانا سيدي ) وسأعمل على نقل أحاسيسي تلك للقارئ وفق التقسيم التالي :
1 – قراءة البيت الواحد : البيت في قصيدة ( هاد الموت ) يتكون من خمسة أشطار ، تتساند فيما بينها لتشكيل وبلورة المعنى المقصود والمحدد ، والمراد للذهن تتبعُه وتحصيله مما تتكون منه جزئيات مفاهيم الموت المتناثرة في النفوس ، والمصاحبة للإنسان في وجوده وتأملاته وإبداعه كما يستفاد ذلك من البيت الأول :
ما معنى ياهلي لهاذ الموت
ومنين سايقاه سموت
وعلى النعوت
لسواد عتوب ولظلام بيوت
طاغي رهيب .
2 – القراءة المنطلقة من القفلة النهائية ، وهي قراءة عكسية للبيت الواحد ، ويمكن أن نستدل عليها بقفلة البيت المتقدم ( طاغي رهيب ) والعلاقات الممكنة والواضحة التي تربطها بكل الأشطار المتقدمة عليها ، ولكن أريد أن أفصل شيئا ، وأدل القارئ على كل الأبيات إن أمكن ، يقول الشاعر في قفلة البيت الثاني : ( في ذا لغصيب ) ومدى المدلولات المتفرعة عنه في الأشطار المتقدمة عليه ، وهنا تظهر حنكة القارئ ، ومقدار انتباهه للظواهر الفنية من جهة تركيب وبناء قصيدة الملحون :
ما هاذ الموت أولا من نار ؟
من ريح أو من فخار ؟
غاب الخبار
وبنادم غير داهل ومحتار
في ذا لغصيب .
انظر إلى روابط المعنى المتتالية وفق إحساسات الشاعر المتدفقة بتأمل مستقص وهادئ ومعتبر ، وانظر إلى معنى الغصب المنتشر في جنبات البيت وزواياه : في الكلمات ، في الاستفهامات المطروحة ، في حَيرة الإنسان وذهوله ، وخواء ذهنه من خبر اليقين……وهذه كلها تدل دلالة قوية على الغصب ، ومن محدداته ومضامينه الواسعة لدى الإنسان ، فأن يقف الناس العقلاء النجباء ، وذوو الفكر والعقل حَيَارَى اتجاه ( هاذ الموت ) مع أنهم بذلوا جهدهم ، ولديهم رغبة جامحة في المعرفة والتحليل المفضي إلى اليقين الوجودي والمريح ، ثم بعد ذلك لا يحصلون على جواب مقنع ، ولا يتخلصون من عجزهم المستمر ، فهذا هو الغصب بمعنى مصادرة قدرات الإنسان التي يحيا على منوالها ، وتغلب بواسطتها على كثير من عثرات وجوده ، ومكنته من إنجازات عظمى في حياته باستثناء فعل الموت فقد بقي على حاله لدى كل الأجيال ، شيئا مُبهَما ، مُحيِّرا ، حاضرا وغائبا ، ظاهرا وخفيا ، لم يستطع أحد أن يتجنبه ، أو يغلبه ، أو يُبدِّل سننَه وقواعدَه ، وفي النهاية يقضي على الحياة ، ويُقسم الإنسان إلى قسمين : جثة ساكنة وكأنها لم تكن ، ولم تتكلم ، ولم تتحرك ، ولم تفعل شيئا تُلحَد في التراب ، وروح صعدت بعيدة في الملكوت ، لا يدري عنها علم الإنسان المتراكم إلى الآن شيئا ، والمشهد بهذا الشكل من عجائب الوجود والحياة ، فهو يجمع ما بين المتناقضات السرمدية الصلبة والمتواجهة فيما بينها في سياق عصي ومكبل لفعل الإنسان ، وناقص من قيمته وفعاليته بلا حل يساعد على الفهم والإدراك ، ولا يقين يريحه من القلق والتيه الناتج عن العلم والجهل ، وعن الإرادة والإنجاز من جهة ، والفشل والعجز من جهة ثانية في آخر المطاف .
3 – القراءة الكاشفة لأوجه التكامل والتفاعل بين قفلات كل قسم ، إما بهذا التحديد ، وإما بتوسعة تشمل كل قفلات القصيدة ، فعلى سبيل المثال سنرى كل قفلات القسم الثاني من القصيدة لها علاقات وطيدة في دلالاتها ووظائفها المُسندَة لها داخل القصيدة من محور دلالات الكلمات المُشَكِّلة للقفل الواحد ، أو من محور التفاعل الملاحظ في عملية التكامل والربط المعنوي بين قفلات كل أبيات القسم كما سنقف على ذلك من خلال قفلات القسم الثاني التالية :
فذ ولبيب = البيت الأول .
حجبو حجيب = البيت الثاني .
ضيم ونحيب = البيت الثالث .
مثل الغريب = البيت الرابع .
بحرو سهيب = البيت الخامس .
4 – القراءة المتنقلة ، وأعني بها إبراز قواسم مكونات كل أبيات القسم الواحد ، بل يمكن أن نمدد كلامنا بين أشطار جميع أبيات القصيدة ، وسأقف بالقارئ على المطالع الأولى للأبيات الخمسة المكونة للقسم الثالث من القصيدة :
لا مرثية اليوم فلي ضاع = البيت الأول .
فات الفوت أهل العزا فالضيم = البيت الثاني .
وهبي خلا سجيتو موال = البيت الثالث .
وبديع الفن بالصدق موصوف = البيت الرابع .
يا راوي كن جاد فمسعاك = البيت الخامس .
لاحظ وجود رابطين قويين على الأقل بين المطالع الخمسة المذكورة : رابط في المطلعين الأولين له علاقة بموضوع القصيدة الموت ، ورابط يذكرنا بطبائع قصيدة الملحون الفنية المتعلقة بشكل الختم .
5 – القراءة المتسلسلة بترتيب فكري وتأملي ، جامع ما بين كل أقسام القصيدة ، وهذا من الأسسس الأصيلة الدالة على معنى القصيدة الملحونية في كل العصور ، ولدى كل شعرائه باستثناء ما شاع من تفكك ملاحظ في أغلبية شعر شعراء زمننا للأسف الشديد ، فقصيدة ( هاد الموت ) تتكون من ثلاثة أقسام مترابطة بشكل قوي من جهة التسلسل الفكري المتحكم في كيفية الإبانة عن المضمون المراد ، وترتيبه ، وتحديد معالمه الفكرية والفنية .
ربما هناك من سيزعم ويقول بأن الأقسام إذا كانت قليلة لا تظهر خاصية التسلسل ، ولا تصلح للاستشهاد داخل شعر الملحون ، وهو موقف يمكن أن يصح في نماذج ولكن في موضوع الموت وبمستوى قصيدتنا العالي من جهة التأمل والتعقل سيكون الاختصار على العكس ، وسيتسبب في ضيق وحرج لصاحبه إن لم يكن من طينة شاعرنا أحمد بدناوي ، فأن تستطيع لَمَّ الكلام في موضوع شاسع ، صَاحَب الإنسان في وجوده الأزلي ضمن حيز ضيق ومحكم من القول ، وأن تتمكن من إتاحة فرص عديدة أمام القارئ ، ومن كل هذه الأبواب المفضية إلى فعل القراءة النافع والمجدي……. فكل هذا في نظري لا يحسنه إلا قلة من الشعراء ، وممن أحسبهم من فرسان وعباقرة الإبداع بصفة عامة ، وفي شعر الملحون على وجه أخص الخصوص .
ومن يرد أن يقف على جميع ما ذكر فليرجع إلى قصيدة ( هاد الموت ) وليتابع ما احتوت عليه من تسلسل على مستوى البناء والترتيب الفكري والفني ، وسيقف بنفسه على ما سيدهش ملكات القراءة لديه إن كان ممن جاد الله عليهم بها ، ومكنهم من وسائل الفهم والانتباه والإدراك .
( يتبع )