ذات مساء بعيد، كنّا، صديقي المبدع الراحل إدمون عمران المالح ورفيقته المفكرة الصديقة الراحلة ماري-سيسيل ديفور وأنا نشرب القهوة بشرفة مقهى الجُزر بالصويرة، ونتجاذب أطراف الحديث حول الكتابة والنشر وسراديبهما، وقبالتنا، في عرض البحر المحروس بالتحويم الغسقيّ للنوارس العظيمة، الجزيرة الصغيرة المهجورة التي سبق للمخرج الفنان أورسون ويلز أن صوّر فيها فيلم “عطيل” في خمسينيات القرن الماضي وإذا بالكلام يعرّج بنا إلى ما يتطلبه الفنّ الجريء من حزم ورباطة جأش أمام إغراءات السطحية والتنازلات والتسويات. وفي هذا السياق، توقفت ماري-سيسيل، كما هو متوقع منها، عند التجربة الكتابية العميقة والصارمة لفالتر بنيامين الذي أفردت له كتابيها الفخمين “ملاك جديد” و”الليل الذي تم إنقاذه”، مصداقا للمسار الزاخر وغير المهادن لبنيامين الذي مضى بالكتابة إلى حيث لا يقدر على الذهاب سوى من تورط بكل خلاياه في جذور الفكر وسهرة العالم دون أيةحسابات. وإذا بعمران يستحضر الكاتب الكوبي خوسي ليثاما ليما الذي لم يتهيّب من كتابة ونشر روايته PARADISO ذات الكثافة الأمازونية في بلد كان في ذروة الواقعية الاشتراكية بعد نجاح كاسترو ورفاقه في قلب نظام باتيستا الفاسد. أذكر أن إدمون سألني إن كنت قرأت تلك الرواية بالكامل، فأجبته بأنها كانت نديمتي خلال ليال طوال بجوار مغارات تازة وأنها أضاءتني بمشاعلها الاستوائية العالية، فقال لنا، ماري-سيسيل وأنا، أن عددا من أصدقائه لم يستطيعوا إتمام قراءتها بسبب شعابها المدوخة، وأضاف، وكأنه تذكر أمراً ذا صلة، بأن ناشرا فرنسيا طلب منه إدخال تعديلات على مخطوط روايته “ألف عام بيوم واحد” Mille ans un jour، وسألني عن رأيي، فقلت له إن الكاتب هو سيّد ليله الداخليّ، وهو الأعلم بمسالك حروفه المتعالقة بنبض قلبه، وأن مسؤوليته الكبرى تجاه عمله تقتضي أن لا يغيّر جملة واحدة حتى لو اضطرّه ذلك إلى نشر كتابه في طبعة محدودة لدى دار نشر صغيرة جريئة. وكان موقف العزيزة الراحلة ماري-سيسيل من موقفي. وقد سرّنا لاحقا أنه وافقنا الرأي وقام بتغيير الناشر المتطلّب بآخر فهيم للمقام السياديّ لكلّ إبداع يستحق اسمه.
(الصورة : الراحلان إدمون عمران المالح ورفيقته ماري-سيسيل ديفور)