(العالية في الحضور والغياب معاً ..)
أيتها السامقة بمعناك الباقي، أذكر أنني عندما بلغني نعيك قبل ثماني سنوات آثرت ألاّ أكتب عنك في الحال. لم أكتب عنك إلاّ بعد مرور أسبوع تقريبا لكي أنأى بالكلمات عن النبرة الجنائزية التي كانت ستسربلها حتما، بينما هي تتوجّه إلى عالمة اجتماع زاخرة، وأستاذة أجيال مقتدرة، وسيّدة جليلة مفعمة بالحياة.
لا يمكن تأبين بنات الحياة مثيلاتك، خاصة وأن أغلب التأبينات، في المسلكيات الثقافية والسياسية على السواء، أشكال مواربة لتبرئة الذمّة، ومساعٍ غاشمة لاستعادة قسرية لوجوه كبيرة حررها الموت ليلحقها بأعمارها الثانية التي لا تنتهي. لذلك ظللت تنفلتين من كلّ استرداد، وبقيت، ما وراء القوانين الفيزيائية للموت، منطلقةً وغير مهادنة لما يحدث هنا والآن في عالم عربيّ مرتهنٍ لدى أنساق ومنظومات رهيبة، وظللت جامحة كالأسئلة الحارقة والحفريات الجريئة التي أنجزتها في أراضٍ محرَّمة ومدجّجة، منذ القدم بأعتى الرقابات البطريركية، فاستمرت أعمالك الإجرائية مقتربات صارمة ل”الجنس كهندسة اجتماعية”، وإضاءات اعتبارية ل”السلطانات المنسيات”، وكواشف ل”الحريم السياسيّ في الإسلام” ولكلّ الذهنيات الحريمية والتحريمية، غير مبالية بالطلقات التحذيرية والرشقات المباشرة التي وجهها لك حرس الوثوقيات والحدود الذهنية، لأن “الحدود خطٌّ وهميٌّ في رؤوس المحاربين” على حد قولك أنت التي طالما كتبتِ أنّ :”الكرامة هي أن يكون لك حُلم، حُلم قويّ يمنحك رؤيا وعالماً لك مكانك فيه”، وأنّ “رسالة شهرزاد هي أن السحر بداخلك”، وأن “علينا تعلّم الصراخ والتظاهر في الساحات كما نتعلم المشي والكلام”.
وها إنني أذكر أوّل لقاء لنا منذ سنوات بعيدة في سياق عشاء ثقافيّ، حين شاءت الصدفة – التي هي مجرد تمظهر لقانون عميق – أن نجلس إلى المائدة متجاوريّن، وإذا بك تفاجئينني، بكلّ تلقائيتك الرائعة، بأنك أعجبتِ بنصٍّ لي كنتُ أجبتُ من خلاله عن سؤال وجهته جريدة “الاتحاد الاشتراكي” إليّ وإلى بعض الأسماء الإبداعيّة حول “علاقة الكتابة بالأمّ”. وما لبثتِ أن لاحظتِ أننا قلّما نأكل فسألتِني إن كنت أكلتُ قليلاً قبل مجيئي، ولما أجبتك بالإيجاب، قلتِ لي ضاحكةً :”أنا أيضا أكلت قبل مجيئي” وأضفتِ برقّةٍ أموميّةٍ : “إياك أن تأتي إلى مثل هذه المآدب قبل أن تأكل قليلا، لا تنسَ هذا أبدا، فنحن لا نستجيب لهذه الدعوات من أجل الطعام، بل من أجل بعض اللقاءات المضيئة”.
لم أنس هذه الوصية أبداً رغم ندرة استجابتي للدعوات، لأنني لا أنسى كلماتك الذهبية التي طالما رافعتِ من خلالها على أن “الكتابة إحدى أقدم أشكال الصلاة”، وأنها تعلّمنا السموّ بنظرتنا، لأن النظرة السامية هي التي تخيف الوحش الذي تبهجه النظرات المنكسرة. لترقد روحك بسلام في رحاب الحلم المقمر الذي كان يفتنك على السطوح الليلية لفاس الغالية علينا معاً.