‏آخر المستجداتلحظة تفكير

محمد الشركي: من يُلقي الحروف بذوراً في سهل الرماد ويمضي؟

1 ـ أعتبر “الغصن الذهبيّ”(بأجزائه الأربعة) لجيمس جورج فريزر، العالِم الميثولوجيّ الخصيب، منجماً عميقاً زاخراً بسرديات الأساطير والأديان والسحر والفلكلور والطقوس والاحتفالات الشعائريّة السحيقة في العالم. وهي سرديات ما تزال تغذّي مختلف المنظومات الرمزيّة والأنساق العقائديّة والاستيهامات السلطويّة، مثلما تغذّي وتسقي أقاليم الأحلام الموغلة في ليل البدايات المسربل بالأسرار. أذكر أنّني عندما سافرتُ إلى تازة لأوّل مرّة، لأداء ما كان معروفا بالخدمة المدنيّة، حملتُ في حقيبتي، إلى جانب طبعة “لابلياد” للأعمال الكاملة لمالارمي، أحد أجزاء “الغصن الذهبيّ” الخاصّ بالآلهة التي تموت، وهم أدونيس وآتيس وأوزيريس، وكأنني استشعرتُ كم سأكون في أمسّ الحاجة إلى نور هذا العمل الجليل النّابع من أعماق الأراضي الرّوحانيّة. لقد لازمني هذا الكتاب وأضاءني، سواء خلال مقامي بمدينة المغارات الكبرى، أو لاحِقاً طوال مساري الواقعيّ المليء بالاختبارات الحدوديّة التي نحتاج فيها دائما إلى ذلك الغصن الذهبيّ الذي تقول الأسطورة الإغريقيّة إنّه ينبت على إحدى الأشجار المعترشة بمدخل الجحيم، وأنّه لا بدّ من اقتطاعه والاحتفاظ به لاجتياز عالم الأموات والعودة منه بأمان.

2 ـ في ذكرى مولد الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، أضع وردةً برّيةً داخل ضريحه. ابن عربي أحد الأعمدة العالية التي ينهض عليها العالم الروحانيّ الذي إليه يسافر أهل الأرواح. معه ارتفع الفكر الصوفيّ إلى مراتب الكشف الكبير الذي لا يدركه سوى اللواتي والذين غادروا دون إبطاء ذواتهم الصغرى نحو الذات الكونية الكبرى. ومعه ارتقت المعرفة معارج الروح المتعالقة بمعارج الوجود بشقّيه الظاهر والغابر معا. ومعه أيضا ارتفعت الأشواق الهيامية إلى سدرة منتهى قلبه الذي أغرم، ذات اعتمار في مكة، بالفتاة الربّانية “نظام”، ابنة أحد شيوخه الأساسيين، فهاجت دواخله بالوجد العظيم الذي وثّقه في كتابه الزاخر “ترجمان الأشواق”، حيث أشار في مقدمته إلى “نظام” بأنها “حقة مختومة، وواسطة عقد منظومة، يتيمة دهرها، كريمة عصرها، سابغة الكرم، عالية الهمم، سيّدة والديها، شريفة ناديها، مسكنها جياد، وبيتها من العين السواد، ومن الصدر الفؤاد”. وفي قصائد “الترجمان” ما بوّأ هذه الغادة المضيئة مكانة مهيبة في حضرة العوالم العليا. لذلك يظلّ ابن عربي درساً في العشق العرفانيّ المتخطّي لكلّ أوفاق الحبّ السطحيّ، مثلما يبقى درساً في المكاشفة الروحانية التي تذهب بالقول والفكر إلى أقاصيهما وحافاتهما المضاءة بالشغف الكونيّ.

3 ـ من يُلقي الحروف بذوراً في سهل الرماد ويمضي،

من يوقد الكلمات مشاعل ليستكشف أعماق الهاوية،

من يجعل من نسوغ الغابات دمه الثاني الطويل،

من يؤاخي الأموات والجرحى ويتنور بشموع أرواحهم،

من يقتدي بأزهار الجروف التي تنمو بين جلاميد الصخور،

من يقول في كلّ لحظة : وداعاً ومرحبا،

من يهمس للهشاشات : أنت قواي الوحيدة،

من يثق بين متاهات الوحوش ببصيرة الأقليات واقتدارها،

من يبقى طفلا يهبط سلالم الأعمار وهو يغنّي،

من يلعب بالمنظومات التي تتلاعب بالجميع،

ذاك هو من يجمع في قلبه البرّي الليل والفجر معاً،

ذاك من يظلّ هو القلب الذي ينتصر رغم كلّ ما ينكسر.

4 ـ الكاتبة الهنديّة أرونداتي روي Arundhati Roy من سيدات النور الروحاني والفعل المكافح. فهي روائية عميقة وناشطة حقوقيّة عنيدة. وروايتها “إله الأشياء الصغيرة” God of Small things نشيد طالع من أحشاء الهند الزاخرة. إنها لا تكتب، بل تبتهل وتصلّي وتضحك وتتصدى لكل الوقاحات والوحشيات كما يجدر بكل روح عالية ومكابرة أن تفعل. ومن كلماتها تتضوع رائحة التوابل والطيوب الوفيرة في بلدها، وتهبّ الرياح البدائية للمغارات وجبال الهملايا الشامخة، وينهض سامقا وحاسما اصطفافها إلى جانب جميع الجرحى والمنبوذين الذين تم اختطاف مصائرهم والتلاعب بهم. ونفس هذا الاصطفاف العالي واصلته روايتها الثانية “وزارة السعادة القصوى”. لأن أرونداتي ظلت دائما ابنة الأقليات البائسة، وابنة القدر الهنديّ المسربل بالجمال المهيب والحزن الكبير. لذلك لم تهادن قط المنظومات الغاشمة حيثما كانت، فأطلقت عليها اسم “الإمبراطوريات المتوحشة”، وأخضعتها لتشريح دقيق وعميق في نصها السجاليّ الجريء “الكاتب المكافح”، حيث كتبت :”لا ينبغي لإستراتيجيتنا أن تقتصر على مقاومة الإمبراطوريات الشرسة، بل علينا أن نحاصرها، أن نقطع عنها الأكسجين، أن نجعلها تشعر بالخزي، وذلك بفنّنا وموسيقانا وأدبنا، وعنادنا، وفرحنا بالحياة، وتصميمنا الصارم على حكي قصصنا الخاصة بدل السرديات المنمقة التافهة التي يقصفون بها رؤوسنا يوميّاً”.

5 ـ قليلون جدا في هذا العالم من يستحقون أن نقف بأرواحنا العارية أمامهم، من يسعدنا ويهدّئنا أن نطلعهم على دواخلنا المتصدعة، ومن يبلسمنا أن نكشف لهم عن حروقنا الموغلة في القدم. قليلون من يهبوننا أوطاناً في منافينا، وينابيع في صحارى عطشنا، وشموسا في برارينا القطبية. أولئك هم ذوو وذوات الأرواح العالية من الأموات والأحياء الذين ربّاهم الألم الكبير والفرح الأكبر وعلّماهم بعمق ما يزخر به قاع الوجود من أعراس مخفية منذ تأسيس العالم.

‏مقالات ذات صلة

Back to top button