تأجيل الإعلان، عن موعد تشكيل الحكومة الجديدة في إسبانيا؛ مؤشر يتكرر في السنوات الأخيرة؛ يدل على أن نظام الملكية البرلمانية، بدأ يفصح عن بعض أمراضه، أو بالأحرى شكواه.. والعلة حتى اللحظة، بسيطة وتحت السيطرة؛ لكنها قد تتفاقم وتنحرف الأمور عن نطاقها، نحو توالي الأزمات السياسية المستعصية في البلاد؛ ما قد يحمل القوى السياسية اليسارية العدمية والقومية، ليس على تجذير مطالبها، وإنما الدعوة الصريحة إلى التخلي عن بنيات النظام الأساسي الحالي.
لقد ساعد الدستور الجاري به العمل، على استباق عدد من الاحتمالات المعرقلة للنمو الديموقراطي؛ بل بجوز القول، إن فقهاء الدستور الذين حرروا الوثيقة الأسمى؛ ذهب خيالهم الفقهي السليم، بعيدا في التصورات والبدائل، الملطفة لأجواء احتقان محتمل. كانوا جد حذرين ومرنين، مستوعبين تبعات وضع انتقال من الديكتاتورية الخانقة، إلى ساحة الديموقراطية الفسيحة المنعشة .
السؤال الذي تتداوله بعض الألسنة، اليوم في إسبانيا؛ يلقي مسؤولية تكرار الأزمة على تركيبة بنية الصرح السياسي القائم. دعوات تطلقها أصوات متباينة، حتى من وسط الصف الديموقراطي المؤيد لنظام دستوري مستقر؛ لكن أخطرها يطلقه الفوضويون المناهضون للنظام ، بغاية استبداله بجماهيرية تشاركية طوباوية !!! تهدد على المدى المتوسط أركان الدولة الوطنية.
أكيد ، أنه سيناريو كارثي، مستبعد، لكنه ممكن الحدوث، إن توالت أزمات الحكم؛ جراء التعدية الحادة الفئوية التي تستشري في المجتمع الاسباني.
والحقيقة أن ما تعانيه إسبانيا في تجربتها الديموقراطية؛ يمكن أن يكون حافزا لها على الإسراع بالشروع في علاجها. وهي مهمة تبدو صعبة، مرهونة، بنهج النخب السياسية وإشاعة أجواء السلم والتعايش بين النزعات والقوميات.
صحيح أن الملكية التي يفترض أن تضطلع بدور المراقب، الضامن الحريص على وحدة البلاد ، بالتصدي للانزلاقات؛ أو على الأقل التنبيه لخطورتها على الأمة؛ لا تملك أي الملكية، كل الصلاحيات والسلطات والآليات، بما فيها الرمزية الكفيلة بشرعنة تدخلها الحاسم ، عند الاقتضاء؛ ردعا للتجاوزات المضرة بالمصالح العليا للأمة.
ثمة علامات متناقضة أو ملتبسة ؛ بعضها مطمئن، والأخرى تثير الخشية في النفوس؛ من قبيل أن رئيسة مجلس النواب الحالي ؛ لها مواقف سابقة معلنة بخصوص تأييد النظام الجمهوري!! وهو هوى حزبي، يقوي مخاوف اليمين، من نوايا الحزب الاشتراكي؛ رغم أن هذا الأخير ، لا يرتكب منكرا سياسيا؛ سوى أنه يقترح الأساليب والبدائل، لإطفاء نار الأزمات؛مؤكدا أنه يتحرك ضمن دائرة الدستور.
والحقيقة أن الاشتراكيين، بقيادة “سانشيث” حاليا ، وقبله زعامات تاريخية: غونثالث؛ ثباطيرو ؟وروبالكابا، هؤلاء عمقوا ثقافة الدولة لدى المناضلين.
في هذا السياق، قبل “سانشيث” وقد يكون على مضض، قرار الملك فيليبي، تكليف زعيم الحزب الشعبي، تشكيل حكومة ، في غضون شهر كامل ، حيث تقرر مثوله أمام مجلس النواب؛ يومي 26.26 سبتمبر المقبل، للتصويت على منح الثقة.
هل سيفلح الرئيس المكلف ، الذي قد يحول نفسه وحزبه مجددا ؛ رهينة لحزب “فوكس”.
لدي اعتقاد متواضع، أن مهلة التأجيل، قد تصب، في صالح الزعيم الاشتراكي، وحلفائه اليساريين المشتتين قددا . ستتيح له ( المهلة) تنقية الأجواء والعلاقة مع التنظيمات الكاتالانية؛ لتعميق ما اتفقوا عليه ضمنا أوصراحة، من أجل أن تنضج “طنجية” الحكومة الائتلافية ،على نار هادئة وصبر الطباخ.
لن يستطيع زعيم الحزب الشعبي، على الأرجح، جمع أغلبية في مجلس النواب؛ لكن شبح إعادة الانتخابات، يظل محلقا فيى الأفق السياسي، وقد يجلب الربح أو الخسارة، لأطراف دون أخرى. لكن ” الإعادة” لن تغير المشهد برمته في المدى القريب؛ فالاستقطاب الايديولوجي، بلغ مبلغه وبات متغلغلا في المجتمع. ولا أحد يعرف كيف يوقفه بمفرده: لا الملكية البرلمانية الراقية والمحايدة؛ ولا الساسة العاقلون.
القوة المؤهلة إلى جانب من يساندها في مقاصل الدولة العميقة، من رجال المال والأعمال ومنشطي الاقتصاد الوطني في الداخل والخارج. دون استثناء يقظة الجيش. تلك القوة مجتمعة ؛ هي التي ضمنت ، حتى الآن، لاسبانيا استقرارا اجتماعيا ؛ باقتصاد مزدهر.
ترى، كيف كانت ستكون صورة البلاد المتناحرة سياسيا؛ في ظل أزمة اقتصادية مستفحلة.؟ في نفس سياق آخر ، قد يكمل سانشيث، مع إعادة الانتخابات، أو تثبيته في منصبه الحالي؛ إكمال أجندات مهمة ، ضمنها فترة الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي.