في صيف عام 64 من القرن الماضي؛ تقدم الفريق النيابي لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بأول ملتمس رقابة في تاريخ الحياة السياسية بالمغرب المستقل. ساند حزب المهدي بنبركة، غريمه حزب الاستقلال الذي أقصي بدوره عن المشاركة في الحكومات التي كان يهندسها الوزير النافذة أحمد رضى كديرة، الكاره التاريخي لحزب علال الفاسي؛ من منصبه النافذ : مديرعام الديوان الملكي.
وكان حزب الاستقلال هو الأكثر عددا من النواب، خلاف الاتحاديين الذين أدركوا آنذاك المغزى السياسي لتأييد حزب عريق لهم ؛ انسحبوا من صفوفه قبل سنوات قليلة (1959) احتجاجا على قيادته المحافظة.
وبسبب ذلك التنسيق؛ نجح الحزبان في تنظيم أقوى مبارزة سلمية، مع الحكم، تحت قبة البرلمان الأول؛ لم يتكرر مثلها في البلاد الا في عام 1990 بصخب أقل، ضد حكومة عز الدين العراقي، العضو الأسبق في اللجنة التنفيذية للحزب وطبيب الزعيم علال الفاسي.
اشتدت سخونة جلسات النقاش البرلماني الذي امتد حوالي خمسة أيام؛ تجاوز أكثر من مرة الخطوط الحمراء المتعارف عليها في النقاش البرلماني.
وفي ذاك المقر المؤقت ( كلية العلوم) تواجدت قامات سياسية وطنيةسامقة، من الموالين والمعارضة,، فقد برز منها خطباء مفوهون، مثل الزعيم عبد الخالق الطريس، والمحامي محمد التبر والشاب عبد الواحد الراضي، وعبد اللطيف السملالي وعبد القادر الصحراوي.
وكان الطبيب المقاوم، الدكتور عبد اللطيف بنجلون( نائب طنجة) هو منسق فريق المعارضة الذي أحرج مرارا أحزاب الأغلبيةبكياسته، وقوة خطابه السياسي؛ وكونه مقاوم معروف؛ ماجعل نوابا من الأغلبية، يفقدون السيطرة على أعصابهم، ويكيلون إليه اتهامات شخصيةمبالغا فيها؛ استوجبت دفاعا شرسا موحدا من نواب المعارضة: اتحاديين واستقلاليين؛ ببنما كان يرأس الجلسات الدكتور عبد الكريم الخطيب الذي لطالما لجأ إلى إلزام شقيقه عبد الرحمن وزير الداخلية المشاغب باحترام القانون .
دفع ذلك الجو الساخن المشحون، غير المسبوق؛ الملك الراحل الحسن الثاني، لإصدار أمر مباغت يقضي بنقل مباشر عبرالإذاعة، لوقائع سائر جلسات المناقشة العاصفة؛ فأتيح للرأي العام المغربي لأول مرة، متابعة أقوى مباراة بين المعارضة والأغلبية الحكومية؛ التي كان يحرك خيوطها ويقف وراء الستار الراحل أحمد رضى كديرة، وهو السياسي الواسع النفوذ والحظوة، لدى الملك الراحل.
وكديرة هو مهندس طبخة أول انتخابات تشريعية في المغرب؛ حيث أسس لخوضها حزب أغلبيا ” جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية” ( فديك). تسمية ذات إحالات واضحة على اتهام الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بالتآمر على الدستور فيما سمي “مؤامرة يوليو 1963” التي نكب فيها الاتحاد على يد مدير الأمن الوطني؛ الجنرال محمد أوفقير.
ورغم خطورة الاتهام والعنف الذي سلط على رقابهم؛ لملم الاتحاديون الجراح وشاركوا في انتخابات تشريعية عام1963 وفق دستور قاطعوه في ديسمبر 1962ودخلوا البرلمان، بعدد من النواب، أقل كثيرا من حجم مؤيديهم في شارع كان ضاجا بالحراك السياسي في القطاع الطلابي على الخصوص .
انتهت الجلسات البرلمانية المثيرةحقا، بإنقاذ الحكومة القائمة، بفضل تصويت كمشة من النواب “المحايدين” المتسترين (والحقيقة أنهم عجلات احتياط وضعهم كديرة بين المعارضة والاغلبية، ليكونوا رهن إشارة الحكومة )
لكن المعارضة بشقيها، خرجت أقوى مما كانت عليه واستطاعت بسهولة، تعرية ضعف الفريق الحكوم ، وكان هجينا, مكونا من تشكيلات حزبية ضعيفة، قاده رجل قانون، قليل الخبرة بالسياسة، مفتقد لمقومات الزعامة والكاريزما؛ هو أحمد اباحنيني، شقيق الوزير الحاج امحمد، الذي كلف أيضا برئاسة حزب، لم يعمر إلا شهورا : الحزب الاشتراكي الديموقراطي.
كان الوزير الأول أحمد اباحنيني رجلا مسالما،وجد نفسه في موقف صعب، لا يستطيع تدبيره، غير قادر على إسكات مدافع المعارضة، المعززة بطاقات شباب يعرفون مواطن الخلل فيها، مزودين بخبرة سياسية، وقدرة على التعبير عن مطالب الجماهير الشعبية .
وضعت الانتفاضة العفوية الشعبية التي اندلعت في الدار البيضاء يوم 23 مارس65؛ حدا للتجربة البرلمانية الفتية؛ وأعلن الملك الحسن الثاني حالة استثناء مخففة: تعطيل البرلمان ووقف العمل بالدستور الأول؛ دون فرض الأحكام العرفية وتقييد كلي وشامل للحريات العامة؛ بل فتح الملك خطوط اتصال خجولة بالمعارضة الاتحادية ؛ لكن التوتر السياسي استمر في البلاد، بين قسوة وانفراج؛ إلى أن ألقت الأزمة بكلكلها، أشد من ذي قبل على المغرب؛ بين الاتحاد الوطني والحكم؛ جراء اختطاف الزعيم الكبير المهدي بنبركة ( أكتوبر 1965).
توالت فصول الحراك السياسي؛ بين مد وجزر في المغرب إلى منتصف السبعينيات بعد بروز مشكل الصحراء واصطفاف الجزائر في موقع المعادي لتطلعات الشعب المغربي.
وينبغي في هذا السياق، تسجيل ملاحظتين:
*أولاهما أن الاتحاديين لم يوثقوا، حسب الأصول، تفاصيل ووقائع معركتهم السياسية الحاسمة والمجيدة مع النظام، في البرلمان وخارجه؛ كي تطلع الأجيال المقبلة على ما حدث، في ذلك الصيف الشهير؛ وما تلاه في العام الموالى من أحداث وأزمات مزلزلة، بصمت تاريخ البلاد؛ فقد هيمن انسداد طوال عقدي الستينيات وما تلاها, إلى غاية انفراج، بدت تباشيره بصورة متدرجة، في مستهل عقد التسعينيات؛ توج بصلح أو تساكن تاريخي بين القصر والاتحاد الاشتراكي .
*أما الملاحظة الثانية، فتتعلق بمفارقة تاريخية في مسار حزب القوات الشعبية، الذي أبتعد عنه في الوقت الراهن، كثيرون من مناضليه والمتعاطفين معه، من الفئات المجتمعية الصاعدة. لم يعد الحزب في نظر كثيرين ذلك المدافع المستميت الذي لا يلين، عن تطلعاتهم.
ومن الطبيعي وقد ضيع الحزب اليساري الكبير، الكثير من رصيده النضالي؛ وتراجع عن الصرامة في مواقفه المعارضة غير المهادنة . لم تسايره تتبعه قوى حزبية معارضة؛ لمساندته في غارة ميؤوس من نجاحها على الحكومة الحالية، لاسقاطها بملتمس رقابة ، على الرغم من ضعفها وتخبطها.
لايملك الاتحاد أي قوة برلمانية فعالة، لتحقيق هدفه؛ بالنظر لكون حكومة تحالف اليمين محصنة بعدد كاف من النواب فيى غرفتي البرلمان ؛ سهل الحصول عليهم نمط اقتراع جديد ” القاسم الانتخابي” لم يستوعب عدد كبير من المصوتين غايته وفوائده ؛ لكن قيادة الاتحاد الاشتراكي تحمست له ؛ مؤملة أن ذات الاقتراع، سيعيد الحزب إلى الحكومة؛ فكان الرهان الخاطئ أحد أسباب نكسة ” الاتحاد الاشتراكي” المدوية.
لم تعالج القيادة بنقد ذاتي، استراتيجيتها المتجاوزة، بل فاقمت، حسب منتقديها الأخطاء؛ لتنتهي فترات مضيئة وصفحات ناصعة من نضال سياسي زاخر بالتضحيات.
فشتان ما بين غليان صيف الأمس وفتور الربيع الحالي.