في العلاقة بين المال والسلطة والدين دأبنا منذ سنوات نردد بأن الدولة لم تعد فقط جهازا بيد الطبقة الحاكمة بل صارت الدولة طبقة ارتقت من مهام إنتاج القوة العمومية والأمن وإنفاذ القانون إلى مراكمة النفوذ ووسائل الهيمنة ثم قنوات السيطرة ، فالدولة كالحزب تعبر سياسيا ثم قانونيا عن نفسها وعن التحالف المصالحي الحاكم ، فكما السلطة تراكم الثروة ؛ فإن المال يمَكِّنُ من السلطة .
ولهذه الغاية تم حذف المقتضيات التي تمنع الجمع بين ممارسة السلطة ومزاولة الإقتصاد من مسودة دستور 2011 . وهو أحد الأسباب التي لم نوافق بعض الهيئات التقدمية على مقاطعتها للإستفتاء ، ناهيك عن ترك الساحة شاغرة لفائدة التيارات الإسلامية وحليفاتها من الحركات الدعوية والتبليغية والإحسانية ودور القرآن ، فقد تم الإلتفاف على مطلب الدولة المدنية وحرية المعتقد . وقد استخدم نفس الرصيد من الأصوات في الإنتخابات التشريعية لفائدة المحافظين في شخص حزب المصباح ، وطبعا تم تبرير ذلك بأن الأجندة الدولية والعقل الأمني الرأسمالي فرضا الخريطة كأمر واقع وضرورة للإستقرار .
طبعا من الناحية السياسية لا يمكن إلا أن نحترم ” المنهجية الديمقراطية ” الكمية ، رغم أنها مشوبة بالإنتقائية لأنها تخص الوسيلة أي الإقتراع دون الغاية أي الديمقراطية كجوهر للحكم . فمنذئذ طوي بصفة رسمية قوس ” المشروع الحداثي الديمقراطي ” ، بعد أن كانت قد ” تفتقت ” الإرهاصات الأولى على إثر مسيرتي الدارالبيضاء والرباط المتوازيتين ، اللتان قسمتا الرأي العام الوطني ( النخبوي ) إلى معترضين ومناصرين على / للخطة الوطنية حول تحرير وتنمية المرأة . وهي واقعة تاريخية كشفت مدى تقدمية أو حداثية بعض القيادات ومحافظة او رجعية البعض الآخر ؛ انتصرت أصولية الدولة وتكرس ترددها ، فلا غرو أن تنتعش البراغماتية وتميع الإصطفافات ، فمنذئذ أبرمت هيأة تقدمية تسوية مهادنة مع هيأة محافظة ، وبعد أن فازت هذه الأخيرة بمنصب رئاسة التحالف الحكومي عين وزراء أساسيين وقياديين من تلك الهيأة التقدمية ، بعلة أمنية وضمانات عائلية وتعاقدية ( تسوية الهدنة ) مرتبطة بنفس التسوية . انقضت الولايتين ، وفي الأولى كانت السياسة الحكومية متوترة مع توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة ، ومع كل هو حقوقي كوني ، فقد أدرجت كل المقتضيات الإصلاحية ذات الصلة في ذيل المخطط التشريعي للحكومة . أما في الولاية التشريعية الثانية فلولا مرونة رئيس الحكومة البديل الذي انفتح على الطيف الحقوقي فحصل تطور حثيث على مستوى بعض الإصلاحات المؤسستية والتشريعية ذي الصلة ، أهمها الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب وخطة العمل الوطنية حول حقوق الإنسان والديمقراطية ، والتي انتهت صلاحية بانقضاء مدة الولاية الحكومية المرتبطة بها . واليوم وبعد أن حلت حكومة محل السابقتين ، يطرح سؤال البديل الذي يصعب تصوره نوعيا ، مادام أن الرئيس الحالي هو وزير الفلاحة والصيد البحري السابق في ظل الحكومتين السابقتين ، وهو المسؤول عن أكبر مخطط زراعي كلف الخزينة العمومية الملايير ، ناهيك عن وصاية الوزارة على قطاعات حيوية واستراتيجية مرتبطة عضويا بكبار الفلاحين والرأسماليين العقاريين والزراعيين ، فمنذ بداية العهد الحسني كانت دائما الوزارة سيادية إلى جانب البريد والداخلية ثم العدل والدفاع والخارجية.
إن إشكالية ارتباط السياسة بالإقتصاد هيكلية ومتوارثة ومرتبطة أشد الإرتباط بإشكالية تداخل المسؤوليات وتماهي الصلاحيات بنفحة أبوية متعالية على الدستور نفسه ؛ وبذلك وجب التفكير في طبيعة الدولة / الطبقة كجزء من الحل وليس كجزء من المشكل ، وهذا لن يتأتى إلا برد الإعتبار للنقد الفكري والتحليل التشخيصي الذي ينبغي أن يؤطر السياسة والخيار الإستراتيجي ، وقد أثبتت التجربة على أن تحديد التشكيلة الإجتماعية والإقتصادية شرط لجودة تدبير الصراع السياسي والفكري والإجتماعي على ترتيب واضح للتناقضات وعقد التحالفات على أساس مصالحي وطبيعي واستراتيجي ، في ظل بنيات اقتصادية وثقافية يتعايش فيها أنماط إنتاج يهيمن فيها التقليداني كجوهر ويتماهى مع اللبرالية كشكل . بنية تيسر التجسير نحو ” الإنتحار ” الاجتماعي ، عبر قنوات الإستقطاب والسخرة والإدماج في دواليب السلطة ، فمناخ الديمقراطية التمثيلية صار مرادفا لبيئة إنتاج النخبة ومراكمة فوائض الريع . من هنا لامناص أن نتساءل، والحالة هاته ، عن مصير مطلب الدولة الإجتماعية في ظل إنتعاش مقومات الدولة الرخوة ، رغم المساحيق “الرقابية” الإنتقائية التي تستهدف الأغصان والثمار الفاسدة دون العمل على استئصال الجذور ؛ لأجله ولغيره من الخلفيات الثقافية والحقوقية نؤكد على أنه عندما نحرص ونصر على مطلب تحديث النظام السياسي وتحريره من التقليدانية المعيقة ؛ فلكي نساعده -اضطرارا – على ضرورة تفادي السقوط في فخاخ “الدولة الرخوة ” وهذا شق محوري في مقاربتنا والتي لا يخجلنا التصريح بها ، فرغم إختلافاتنا مع النظام السياسي ومناهضتنا لمظاهر الإستبداد ومخالفات الفساد ، فإننا نؤمن بإمكانية وجود “جزر ” لحرية الإعتقاد والإنتقاد في بحر الظلمات ، حيث لا نملك سوى التمرد بالسباحة السائلة تجاه تيار القوة الناعمة الطامع في الإنضمام ” انتحاريا ” إلى صف الدولة / الطبقة بإسم حماية النظام وشرعيته الدينية ( المحفوف بمخاطر أسلمة مؤسسات الدولة بالمنافسة ثم الإختراق ) أو بإسم الدفاع عن المؤسسات الدستورية ، وهي كائنات انتهازية أفظع من الإنقلابيين ، ما دامت لا تعترف ديموقراطيا بأدوار الشرعية التاريخية ، بل تحتهد على محاولة الإستئصال من المشهد ، في أفق المحو من الذاكرة والمستقبل ؛ وعندما يكون التفكير الليبرالي الهجن بهذا الشكل والإختيار ؛ فأكيد لا يمكن الرهان على النخبة السياسية المدعومة بالأوليغارشية المالية ، كقاعدة إجتماعية للنظام ولا للدولة أو بالأحرى الوطن ، فالرسمال الكمبرادوري جبان ، ولا قبلة له ولا بوصلة سوى الخضوع للخوارج ومأسسة التبعية بنيويا ، وكلما تم تجديد الصفقات يتم تجديد الوفاء ( بمعناه التعاقدي القانوني ) للديون الوصائية ، وبالتالي ستخون هذه الوكالات الإنتخابية والبرصوية ولاءها الزائف كما خانت انتماءها السالف . ولنا في السرديات الأمنية والحزبية عبر ونماذج .