ينبغي الاعتراف بكل جدية ومسؤولية دون جبن أو تهور بأننا قد نفقد البوصلة إذا طبعنا مع التراخي والتردد دون موجبات معقولة ومقبولة ؛ علينا التصدي لكل محاولة زرع الفوبيا في الصدور والعقول ، سواء تعلقت بفزاعة القمع المباشر أو الردع السائل أو الرقابة الذاتية ، كقوات ناعمة أو صلبة لا فرق . فالتململات التي ترهن سؤال إستقلالية القرار الوطني وتحرر الإنسان المغربي ، كي نؤسس حقيقة وواقعا لمواطن مغربي ، تؤثر على السياسات العمومية في مجال الأمن والتشريع والإقتصاد ، وترتب لكل ما يرتبط بالسلطة والقوة والمراقبة والضبط ، في علاقة تبادلية وجدلية مع مطلب الحرية والعدالة . فلا يعقل أن يراوح سؤال الحقيقة والمسؤولية مكانه ، ولا يبرحه إلا لغاية التنفيس العابر وامتصاص النقمة . إن مسلسل التفقير الذي تعاني من التلويح به و التهديد به شرائح الطبقة المتوسطة ، الدنيا منها والوسطى ، لا يمكن فهم أسبابه إلا فحص وتشخيص الطبيعة البنوية المحافظة والطابع الإقطاعي الذي يطبع فيه المجتمع والأخطاء الإقتصادية المفارقة التي تقع فيها الدولة في تدبيرها للحياة الإجتماعية ، وقد يقال بأن الأصولية المعتدلة للدولة في حد ذاتها غير مسؤولة سوى في جانبها التقليداني المهيمن على الأمن والإقتصاد والقضاء ، وذلك لفقدانها لبهارات ” أخلاقيات التدبير العقلاني ” ؛ غير أننا ، وإن كنا نتفق نسبيا ، فإن الهاجس الذي يؤرق هو توجسنا من حدة تأثير هذا الإستنتاج على تمثلات وسلوكات النخبة ، فتضطر التطبيع مع هذا ” العقل الإيماني ” كمسلمات وأمر واقع قدري لا مفر منه بحكم ” طبيعة النظام ” ، وهو ما قد يؤثر على على الإمكانيات المتاحة لبروز وتشكل طبقة متوسطة ذات ثقافة مقاولاتية حداثية ، كنقيض لثقافة القبلية وطقوس الزاوية ، ويكرس لأوهام تعايش نمطين او أنماط إنتاج مفارِقة ، تكون فيها فلول الإقطاع مهيمنة تحت لبوس ليبرالي شكلاني غير جوهري وعميق ، بحكم جنينيته وأهليته للخضوع للإجهاض بسبب الفساد والريع ، اللذان يحولان الطموح إلى ميول إلى المحافَظة وجنوح إلى الإتكالية والقدرية الإقتصادية . إننا بصدد وضع غامض الأفق ولكن بعض ملامحه تؤشر إلى أن المغرب لم يتأهل بعد لكي ينافس بإسم الندية وتكافؤ الإقتدار . فالتقليدانية ، رغم مرونتها الظاهرة والمفتعلة ، غير قادرة على التحلي بصفة ” الثورية ” ، لأنها موضوع حاجة إلى تثوير ، إن نقل ستظل محل ثورة من أجل التغيير ، وليس فقط محل تحيين أو تكييف . وإن هذا ما يؤثر على نجاعة ونفاذ أدوار الروح الوطنية الإقتصادية ، باعتبار أن تشكل الوعي الوطني مرتبط بالتربية على المواطنة ، التي تشترط اعتماد سياسة زراعية تحديثية من إصلاح زراعي مقترن بعصرنة للعالم القروي ودعم الأنشطة غير الفلاحية في المجال القروي . فلا يعقل التصديق أن الإقطاع المغربي طور نفسه من خلال ارتدائه جبة البورجوازية العقارية / الزراعية ، فالعقلية لم تتغير بل ظلت زراعية وريعية ، بدل أن تكون رأسمالية ربحية ومنتجة لفوائض القيمة ، فهي بالنتيجة والغاية لم تأخذ من الحداثة إلا الجانب التقني والفني والتوظيفي ، عوض التمثل الثقافي والفكري . فهل يعود الأمر إلى عجز النخبة الوطنية عن خلق وسائل الإنتقال الديمقراطي وإبداع حظوظ تحقيقه ، باعتماد إيجابيات ومقتضيات مشروع الثورة الوطنية والديمقراطية إقترانا ؛ والتي لم يطلها التجاوز أو التقادم . باعتبار أنها تجسيد لمطلب عدالة الإنتقال في علاقة عضوية بفك الإرتباط مع فلول الإستعمار وآلياته المتوارثة والمتجددة في مجال الإقتصاد والمال والأمن والتشريع ؛ وحل عقدة التجزئة في العلاقة مع المحيط والجوار ، فليس هذا إلا حد أدنى أو متوسط مشتركين في مواجهة التناقض الخارجي، وعلى مستوى الجبهة الداخلية فقد حان الوقت للعمل على دمج ما تخلد من الوعي التاريخي لدى النخبة الوطنية بفرض المسؤولية الإجتماعية وضرورتها المجدية في السياسات التنموية . لذلك ندعو كافة تعبيرات الدولة والمجتمع السياسية والمدنية أن ” تُبقي سلاحها صاحيا ” فبدون فك الإرتباط بالخارج يصعب الحديث عن إرادة حقيقية لإقرار منافسة حقيقية وناجحة دوليا ، لأن الندية والإستقلالية مرتبطتان بقيم الوطنية والمواطَنة ، اللتان تبلور وتؤطر صيغ الإنتاج المواطِن والمتحرر وكذا الإكتفاء الذاتي المستقل ، بغاية مناهضة واستئصال مقومات الدولة الرخوة والنخبة المتراخية ، فأعز ما يطلب هو خوض غمار التحول بدل الإستكانة لمبتذلات التكيف العقيم .
*رئيس المركز المغربي للديمقراطية والأمن