كنت دائما اتحفظ تجاه « نظرية المؤامرة » التي يتم استعمالها للتزكية أو للنفي ، وهي عبارة مشحونة بالشك والقلق الفكري ، لكن عندما تولدت عنها « نظرية التواطئ » تأكد لي أن الجلادين والظالمين قد أفلحوا في ترسيخ وسائل انتاج الإتهام والتشكيك في المصداقية وتفكيك عناصر بناء الثقة ، مما أوحى لي إلى ضرورة الحذر في التعامل مع المعلومات المتداولة أو المسربة ، والتي تلعب فيها وسائل الإعلام دورا خطيرا في التأليب والتحريض والإتهام ، وهو ما أطلق عليه « نظرية الشبهة ».
وكل هذا لم يعد يهم ويؤرق إلا بقدر تبنيه من قبل بعض الحقوقيين ، الذين بلغ بهم العبث درجة اعتبار «عطسة » مسؤول ما انتهاكا ، والنظر إلى تغريم صحفي أو محام بسبب مخالفة مرورية تعسفا يخفي مخططا خطيرا بخلفية تصفية حساب والتضييق على حرية التعبير والحق في « الوجود » بدون مساءلة ، وحتى مقترفي جنح الحق العام تحولوا بفعل أضواء الإعلام والنفوذ والعلاقات الزبونية الى معارضين لبعضهم البعض ، وكلما كان طرف أضعف نسبيا من الآخر أو مختلف مع السلطة أو من ينحدر منها ، يتم تبني « معركته » ويتحول من معارض إلى ضحية متضامن معها فيخرج إلى « الرأي العام » مناضلا ، يدعو هو الآخر وقبل « تسخين » موقعه إلى تمكينه من قلم أحمر يصحح به أخطاء «الزعماء » التاريخيين ، بل هناك من تخرج ، بفعل إحتكاكه بالحقوقيين والمحاميين في الشارع الغاضب أو ردهات المحاكم خبيرا في حقوق الناس والحياة والأرض يطعن في التراكم وينظر لسفر انبعاث الأصفار كمداخل لإعادة كتابة التاريخ ، وهو في العمق لم يصنع نفسه وانما هو صنيع ميوعة العمل الحقوقي الذي صار في مسيس الحاجة إلى تأهيل حقيقي ضدا على كل استراتيجية تروم أن تجعل من كل محتج أو متظلم مدافعا عن حقوق الإنسان ومن العمل الحقوقي عصا موسى ، ينهش بها وله فيها مآرب أخرى ، قبل أن تتحول إلي حية تنفث السم القاتل عوض أن تكتفي بتغيير كساء جلدها حسب المواسم ودرجة الحرارة … نقط أو فواصل على الحروف لا فرق …
حقا نحن لا نملك من الحقيقة سوى الجانب الذي ساهمنا به في صنع « النوازل » ، خارج هذا ، فلن نكون سوى شهود في مسيس الحاجة إلى من يزكي أقوالنا ( شهادتنا ) التي تعتبر من وجهة نظر علمية / نقدية ،مجرد قرينة بسيطة قابلة لاثبات العكس أو في أحسن الأحوال مجرد بداية حجة ، تقحمنا في الصراع ، ودون أن ندري أو نعي ، نصير طرفا « غير محايد » ، بحكم حاجتنا دوما إلى قاض فاصل ، فلا غرو إذا قيل بأن الحقيقة نسبية في سياق مسلسل مفتوح ، والحكم يخضع لمنطق الخطأ أو الصواب ، من هنا لابد من ميثاق أو تعاقد في أفق « صناعة » حقيقة متوافق حولها ، تفوت الفرصة على المسيطرين / المهيمنين الذين إذا اجتهدوا وتسامحوا فلن يتجاوزوا ما توفره وتسمح به « عدالتهم » كمنتشين بانتصارهم « الوهمي » .
لذلك وفي ظل إتجاه إرادة البعض إلى طي صفحة الماضي عن طريق مأسسة النسيان ، لا نرى بدا من التذكير أن تاريخ الوطن هو تاريخ تناقضات تناحرية بين الدولة ومهندسيها الأمنيين وخدامها المسخرين وبين القوى الحية في المجتمع كمعارضين وتعبيرات ناقدة للسياسات العمومية والعامة ، تؤطر بثنائية العنف والتسوية ، مع تداخل المصالح هنا وهناك في صيغة تواطئات عرضانية ومؤامرات وخيانات واصطفافات غير طبيعية ، حيث لا يمكن الإطمئنان لأية حقيقة دون إعادة قراءة الوقائع في العلاقة مع السياقات والمواقع ، مع استحضار روابط الأحزاب الوطنية بأصل الصراع ضد الإستعمار ، فلا حقيقة خارج تناقضات الدولة وقاعدتها الإجتماعية أو خارج الأحزاب وقياداتها السياسية ، فكل الجهات استثمرت في تناقضات خصومها ، كما فعل القصر مع جيش التحرير وبنفس القدر الذي تم تعامل الأحزاب مع الجيش الملكي . من هنا يستدعي الطلب على فتح الأرشيف المغربي نفسه لتنجلي بعض ملامح الحقائق والوثائق المهيكلة للحقيقة الوطنية ، ولعل في واقعة 16 غشت 1972 وما سبقها من قرارات 30 يوليوز 1972 وما تلاهما من بيان 8 اكتوبر 1972 الصادرين عن الإتحاد الوطني للقوات الشعبية ( فرع الرباط ) ، مما يشبه التحضير المعنوي لأحداث 3 مارس 1973 .
كل هذا يستدعي تحليلا تركيبيا لتوحيد المعطيات وتنسيق الحقائق ، خاصة وأن لا أحد ينكر دور الخارج وتدخله وخبرته الأمنية في دعم جهة وقمع جهة أخرى باللعب على حبال الإضعاف والإبتزاز وذلك ضمن قواعد لعبة مفتوحة على جميع الإحتمالات والمخاطر ما عدا طريق الديمقراطية واستكمال التحرير . ولنكن حذرين ، فحقا هناك مؤامرة مفترضة وهنالك تواطئات ، ولكن الشيء الأكيد هو الكل يبنى على توافقات أو إكراهات ، والحقيقة ستظل ثورية أساسها عدم التسرع في إصدار الأحكام قبل توفر المعطيات ، لأن تاريخنا المغربي عبارة عن سرديات ، آفاقها ونتائجها أمنية ، أما مقدماتها كانت الرهان على الثورة من أجل التحريك عوض التغيير ، مبنية على ثنائية “” العنف والتسوية “” ، وهي ثنائية لابد وأن نستحضرها ونحن نفكر في أي إنفراج مقبل أو سابق ، ما دامت التسوية تفاوض وافتراض تعاقد فسلام ، وما دام الصمود موضوعي وسياسي وليس ذاتيا ، فإن إغلاق الملفات ليس إلا مؤقتا ، لأن التاريخ صراع ولكل إرادة كلفتها الحقوقية والسياسية ، أبرزها وعينا بأهمية الإصلاح بنفس ثوري عوض الحس الثوري بنفس إصلاحوي .