قديما ، أي منذ ما يقرب من خمسة عقود من الزمن ، كانت الثورة الفلسطينية تنوب عنا في الصراع المسمى قوميا عربيا، إلى درجة أن زعماءنا الوطنيين رسخوا في أذهاننا أن القضية الفلسطينية قضية وطنية ، وكنا نفرح لأي عملية فدائية أوسياسية يقودها زعيم حركة تحررية أو تقدمية في العالم ؛ في العمق لم نبحث سوى عما يشبه النصر وينتج الفرح ويرد الإعتبار ، وقد قهرتنا إيديولوجيا الهزيمة والتي لم تكن ترسخ سوى مقتضيات عدالة المنتصرين ، الذين قسموا خريطة العالم إلى عوالم وأدرجوا بلداننا وشعوبها ضمن العالم الثالث ، وقسموا العمل إلى فكري وعضلي ، والطبقات إلى عليا ودنيا ، وكرسوا الفوارق والتناقضات والمفارقات ، ودفعونا إلى الفرقة والحروب الأهلية ، وإلى متطرفين في اتجاه اليسار وفي اتجاه اليمين ؛ إن لم يكونوا ذيليين فهم ملحقين ، خاضعين لنبوءة الرأسمال أو للعقل الأمني . كنا نملك قضية أو نزعم ذلك ، ومع ذلك كنا نحلم بالنصر المنشود ، بالإنعتاق والتحرر ، واليوم وبعلة إختلال موازين القوة ، لم نعد نبحث سوى عن ملاذ للأمان والإستقرار ، فلا غرو إن كنا نعتبر أن التنافس الرياضي او الحوار الفكري هو وجه من اوجه الصراع الوجودي او الحضاري لا فرق ، لذلك نختار أن نصطف إلى جانب الحلقات الأضعف كلما حققت تقدما وموقع قدم في خريطة العالم المتحولة ؛ فليس رد الإعتبار والإعتبار ، وعلى علة شكله وأدواته وحجمه ، إلا الوجه المطلوب باسم الإنصاف والعدالة ، ليبقى السؤال حول إستدامة المنجزات واستمرارية عمر الفرح الناتج عن لحظاته النادرة كالومض ؛ ليصير أغلبنا منفعلا بدل أن يكون متفاعلا ، وحتى الإنفعال غير منضبط لجهة الفرح ، لأن أغلبنا يبكي وكأنه حزين ، نذرف دموعا عصية نسميها تجاوزا ” دموع الفرح ” وقد قدر علينا أن نعتقد حقا بأن أصل اللذة ألم ؟.
هكذا كل العالمين يبحثون عمن يعيرهم قسطا من سعادته يستمتع بلحظاتها مبررا علاقتها العضوية بأوضاعه النفسية أو المعنوية ، ويصنع لها مسوغات بنفحة دينية او إثنية أو ثقافية أو غيرها من وسائل التبرير والشرعنة أو الإسقاط . شخصيا لم أستوعب الحالة التي أعيشها منذ الوثبة الأولى للفريق الوطني ثم الفوز المتوالي ، إنها تراكم لفرح يتدرج في صيغة متوالية حسابية ، وقد يتطور إلى متوالية هندسية قد تؤثر في مسار ميادين أخرى ذات البعد الإجتماعي على الخصوص . لم أستوعب ما يجري من تحول كمي وكيفي ، ولكن أحاول أن أفسر وأجد تأويلا محفزا ، وطبعا ما يهمني هو أن افلح في تأطير فرحي دون المراهنة على خلوده ، ولربما أجد في هذه المحاولات التجريبية جوابا ” مؤقتا ” ومستساغا لحالتي النفسية .
لم أكن لأكتب وأبوح لولا أن رفيق لي قضينا معا سنتين اعتقالا حكى لي عن هول صدمته، فلم يكن يهتم بمشاهدة مباريات كرة القدم ، جرب أن يؤنس زوجته وهي عاشقة لهذه اللعبة خصوصا إذا تعلقت بالفريق الوطني ؛ هذا الصديق وجد نفسه يتابع القابلة بحماس متصاعد وبدأ القلق ينتابه كلما اقتربت نهايتها ، وعندما صفر الحكم معلنا عن فوز المنتخب الوطني ، بكى بكاء شديدا دون أن يقوى على التوقف ؛ إتصل بي مباشرة عبر الهاتف وحكى لي عما جرى له ، وسألني سؤالا مباشرا : مصطفى لم أكن أتصور أن أكون في مثل هذا الوضع ، لقد تذكرتك يا أخي …وقبل أن يكمل جملته انهمرت دموعي وقطعت الإتصال … وأترك للأيام أن تصيغ مشروع جواب وتفسير لما يحصل في مشاعرنا ومعنوياتنا … فكرت في أن أعيد الإتصال به ، ترددت وتراجعت وأرجأت إلى حين …فهل هذا هذيان أم همهمة عشق الوطن .