مصطفى غلمان: المنطق الاجتماعي والثقافي الجديد لوسائل الإعلام
*(كل الوسائل التي كانت ستجعل الإنسانية أخلاقية قد كانت حتى الآن لا أخلاقية للغاية) ـ نيتشه ـ
*(هناك فوضى بالخارج والفوضى تعني فرصة) ـ مارك أوستروفسكي ـ
تثير إشكاليات معالجة التحول الرقمي في مجال العلاقات العامة، جملة من الأسئلة المتصلة أساسا بالآثار الإيجابية والسلبية للرقمنة على ممارسات هذه العلاقات، وكيفية ابتداع أساليب واعية بطفرات ورهانات الاتصال الرقمي الجديدة.
ويطرح مفهوم العلاقات العامة الرقمية، في المنطلق، جدلا عميقا في اتصاله بمجال تسويق الأفكار والمنتوج الاستهلاكي، على وجه التحديد.
بيد أن ارتباطه بمصطلح “التسويق العام”، هو الأكثر حضورا في النظام الاتصالي للمنظومة الرقمية (Le système numérique)، من حيث كونها مجموعة من استراتيجيات التسويق الهادفة إلى زيادة الوعي بالعلامة المسوقة والتواجد عبر الإنترنت، حيث يكون من ضمن أهداف ذلك، مساعدة تلك العلامات على تعزيز هويتها وظهورها بشكل لائق وذكي، حيث تعد الإشارات الاجتماعية والارتباطات الخلفية لها وحركة مرور الإحالة من الأهداف الرئيسية للعلاقات العامة الرقمية المرتجاة.
ولهذا فإن العلاقات العامة الرقمية هي أكثر من كونها مرئية وموثوقة، بحكم اشتداد المنافسة في مدى إقناع المستعملين والمتابعين لجودة عناصر الفكرة والمنتوج، تحت تأثير وضعيات الإخراج وإبداع العرض وطريقة التسويق.
وهو ما يفرض حدودا معيارية دقيقة، تتداخل فيها ضوابط مراقبة الوسائط ومتابعتها وتوجيهها وتكريسها القيمي طيلة زمن الترويج .
لقد أضحت العلاقات العامة في المجال الرقمي، متشعبة ومترامية الأطراف، تستدرج ضمن سياقاتها المنظورة وغير المنظورة، مواضعات تأسيسية للثقافة الجديدة، وخلفياتها التقنية والاجتماعية والسياسية، ومدى الاستفادة من ممارسات العلاقات العامة التقليدية من المساحات والأدوات الرقمية ، أو بعبارة أدق التفاعل بين الكلاسيكي والحديث ، مع التركيز بالأساس على مستويات كيفية تحويل الرقمنة للجمهور المستهدف من ممارسات العلاقات العامة وممارسات الاتصال للجمهور المعني ، وكذا معالجة جميع جوانب المساحات والأدوات الرقمية وطرق العلاقات العامة الجديدة المناسبة للاحتياجات المتصلة بالجمهور المستهدف .
إنها تيمات غير مسبوقة في حقل سوسيولوجيا الإعلام الجديد ، أو ما يطلق عليه “علم اجتماع الاتصال والإعلام”، ويمكن التداول في بعض مطامحها، خصوصا فيما يتعلق بما اقترحه سابقا المفكر الفرنسي ايريك ماجريت في كتابه “علم اجتماع الاتصال والإعلام”*، بخصوص دراسة الظواهر المرتبطة بالإعلام، كوجود خطابات أيديولوجية أو نفسية ، والاستخدامات النفسية والثقافية لما يسميه ب “الذعر الأخلاقي” المرتبط بظهور وسائل الإعلام “الجديدة”، وارتباطاتها بالأعمال “التأسيسية” للمجال (مدرسة فرانكفورت ، وأنثروبولوجيا الاتصال في أعمال مكلوهان) ، مع استحضار مشاكل المنهج” لمنظري مدرسة فرانكفورت وتلامذتها على وجه الخصوص، والتي تذهب إلى أن “تنظيم وعقلنة الإدانة الغريزية، تصب في نبوءة اجتماعية غالبًا ما تحتكر النقاشات العامة حول وسائل الإعلام” .
ويأتي سؤال “المنطق الاجتماعي الجديد لوسائل الإعلام” الذي يخضع منهجيا ومفاهيميا لنقد تجاوز التحليل المعياري للآثار الضارة للوسط الاجتماعي ، ليكرس مشكلات التفاعل مع بنية القيم حيث تتفكك الهويات وتفصل ويعاد تكوينها وتشكلها، وهي النقطة التي تتداخل فيها التقائية عالم الإنترنت وتقنياته الجديدة، مع الاعتبارات الثاوية لنسق الخطابات والممارسات المرتبطة بالوسائط إياها ، وهو ما يحدد أيضا بعض مظاهر “الأيديولوجية الساذجة” كما يطلق عليها …
نستحضر هنا الحافز التأويلي في الجانب الأخلاقي للتحول الرقمي في العلاقات العامة، وما يؤطره في الجانب الإعلامي على مستوى “الجمهور المستهدف”، وما تطرحه كذلك، الصناعة الثقافية للفضاءات المرصودة، واستخدامات ذلك كله في أحواز النقاشات ومضامينها النقدية السطحية، وما يتولد عنها من شروخات سلوكية وتفاهات أخلاقية.
إن ما يكرسه علم الاجتماع الإعلامي هنا، من أجل دراسة وسائل الإعلام ومدى تأثيرها في المجتمع السياسي والاقتصادي والثقافي ، سواء من خلال ما تنقله على مستوى المحتوى، أو عبر الوسائل المستخدمة، مع ما يرافق ذلك من طريقة استيعابية لرؤية العالم ناتجًا عن ما يمكن تضمينه كفلسفة لتحديد مهمة تحليل العلاقات المتبادلة بين الأفراد والجماعات، سيعيد من جديد تتوير المفاهيم وإعادة تشكيلها، وظيفيا ومنهجيا، بما يتناسب والثقافات السيبرانية المهيمنة، والتي تعمل على فرض آرائها بشكل احتيالي واستباقي، يتناسب والوضعية السائدة الآن، القائمة أساسا على حقيقة أن الحدود بين مرسلي ومستقبلات الوسائط الأكثر قابلية للاختراق ، وهو ما يستدعي إعادة التفكير في دراسة وتنظيم مجالات أكثر تدافعا وأقوى نفوذا في متتاليات الدعاية / المهيمنة، والإنتاج الثقافي/ المهيمن عليه هو الآخر؟.
*ـ Sociologie de la communication et des médias
de Eric Maigret, 2003, Paris, Armand Colin