(الفرصة تخدم الذهن اليقظ) ـ لويس باستير ـ
حصيلة سنوات عديدة من عمري الإعلامي، ثلاثة أرباعها شغلت فكرا متجوهرا حول إدراك معنى أن تجتزئ صوتا لا نهائيا، على منصة تعلوها كاميرات الرقابة، وأبنية تحريرية معقدة، مثل مشهد بطل مسرحية ميخائيل بولغانوف ديموغاتسكي، في “الجزيرة القرمزية”، وهو يحاور خليله غينادي، عن معنى أن تكون حيا وسط ركام من الهواجس والتخيلات، مجبرا على تقبل أي شيء، دون أن تثير ضجة؟.
هل كان لزاما علي، أن أقبل الإدعان لتلك الهواجس، وأن أبدع في حانة ضيقة، ووسط حشد من الخسائر التي لا تنتصر في الأخير لسلطة الذات وصلاحياتها المؤقتة’؟.
ربما، ولأسباب خاصة جدا، يمكنني استعادة بعض مساخر هذه المُثْلَة التي طابت لها الريح و اندغمت في أتون زمانها، .. لا أدري، هل تعذرها العقول، وهي تمسح عنها غبار التجربة، لتعيد صياغة عقلها من جديد، حتى تروي بعض عطش الندم وأكل الأظافر.
يمكنني، فعل ذلك طبعا، فأنا مدرك تماما، والآن قبل أي وقت مضى، أن تجربتي الإذاعية، رغم ماشابها من ضِجَاج وحفلات فوضوية، ومسامير لازالت مغروزة في جراحات مدمية، فإنها تعيد للتاريخ الذي أيقظته من سبات الوجع، جذوته المتآكلة وروحه الشزرى؟.
ليس تبخيسا لما كان، ولا تغميما لما احتبس عن الخروج، بل اعترافا واعيا بقيمته وتوطنه في ذاكرة لا تستعدي ولا تكره، ولا تختزل مواعيدها، بقدر ما تقلب وتقارب، وتستنتج وتستنبط.
والحقيقة، أنني كنت لا ألتفت للأعياد المهنية، مثلما هو حالنا في بيت صحافتنا وإعلامنا. يدور الزمان ونداري على ما حصدناه، مرا كان أو حلوا، ونمضي حيث أناظيم الجموح وثورة الشباب تعبد طرقا تلو أخرى .. وبعدها يبرد الخاطر وتستلقي الفكرة مستريحة إلى جنون آخر.
ما الذي يفصل بين عيد الصحافة وعيد سمك الحوت، أو التمنيع أو طبقات الأوزون أو الزهايمر أو الإطفاء ..؟ الأيام العالمية، هي مثال على الاقتدار والقدرة، الإحساس بمسؤولية الإنسان على حياة هذه المجرة العائمة. وفي خضم هذا التماهي، يمكنني كإعلامي، أن أشيح النظر عن عُبوسٍ مستديم في هذه المهنة النبيلة، لأن مرافقتها الحثيثة والمتواصلة لكل عذابات الدنيا، تنسخ كل آثار قراءاتك وحروبك وآلامك وآثامك وأسفارك الكثيرة. ووفق ذلك، لا أريد أن أكتب عن عيد لا يكرم جلساءه ومتحلقيه. وإن اتسعت القيمة في المرمى، من حيث هي رمزية ايتيقية خالصة، لا تعتورها عوازف المادة وأغلالها، ولا تستنزفها صروف اللَّهْوِ ومجاهل الأشقياء.
لكن هذا المبدأ لا ينفي عن تاريخ العمل في الإذاعة، اقترابية النص للنص، ونفاذ الخوف والقلق، الذي يرتاد القائم عليه، وهو في جفوة القيد وهجرانه. فالذي يحب المتاعب لا يعود ، مثل صائد النسور، تتلقفه الأنواء والمرامات، فلا يستثني نفسه من مخاطيف الكيد والحقد والنذالة.
في هذا التهدير المجافي لكل مسلكيات العيش والمشترك، لا بد وأن تملك قدرة على الإغلاق وتنويع الفهوم وإسباغ الأجواء بما استطعمت من فواعل ومراكب ومجنزرات بشرية. كما يمكنك الحديث بالإملاءات والتصورات المسبقة مع التعميم المبطن لنواياك المستعارة.
ربما في وقت ما، في صلب هذه المتاهة، سينبري خيالك المسجى، لتقريب الصورة المشهدية إلى أبلغ اعتبار، بعد أن تتمثل القصور الفج نفسه، وأنت تستحضر عملك المهني ذاته، تحت سماء دولة عربية أخرى؟. أمثلة متشابهة وعوائد سيرذاتية متواطئة مع تجربة منفتحة على كل احتمالات التلقي. فأن تكرس فارق الخيال وإبداعية الرؤيا وتوسيع مدارك الطموح ، هو تنطيع وشك وإغراق في السؤال؟ كمن يصل إلى نهاية الطريق، تم يعود الكرة مرة أخرى، ليصل إلى نفس النتيجة.
منظومة مجنونة تماما، لا يمكن توصيفها أو تقييم حصائلها ومنجزاتها، دون التعتيم على جانب من مضائقها، حيث تسرع بك الأدوار التي تختزلها بين درجات واستدراجات، دون أن تقع في مسلخة التحايل على مواقع ومواقف ومسؤوليات.
على أنك ستحتفظ لنفسك فقط، بهذا الحق المستور والعسف المغدور، حتى لا تصيبك لعنات الأصدقاء وغضباتهم، جراء ما يمكن أن تقترفه مذاهبك أو اعتقاداتك الشخصية، أو على أقل تقدير، أفكار مخالفة ..
لا أريد أن أنكد عليكم يومكم العالمي هذا، حتى لا أجر عليكم شرا أو قطيعة، فالإذاعة يرحمها الله، لا تتحدث الحقيقة .. وهذا هو داؤها العظيم وعلتها الجسيمة؟.