( في مجال النظر الفكري الخالص كثير من كبريات القضايا المقامة على مغالطة المعاني أو الثاوية وراء مخاتلة اللغة ومكر الخطاب، لا يفكك تلبيسها إلا السؤال الساذج كتلك السذاجة التي نلج بها خيمة الفلسفة) ـ عبد السلام المسدي ـ
يجدر النظر الآن بعين واحدة، والذهاب إلى القول، أن الثقافة والعولمة يفترقان. أما ما يجمعهما فأكبر من الفرقة ذاتها. إذ يشكلان عقلا مكتمل الأركان والبنيان. أولا، في تمثلهما لطبيعة الحيز والمضمار الذي يشغل وحدتهما في المعرفة والتداول الفكري والانتماء للعالم. وهو شق يتغافل عنه أصحاب التخصص والاعتبار، مع أن مقاربته من الزاوية المسكوت عنها، هو أصل الجدل والنقاش المنتشر.
وثانيا، في انتقالهما من مجرد واجهة للترميز والاسباغ بالهوية والتحدد بطبيعة الثقافة، إلى تشكل رؤية بالشراكة، تضع العلامات وتصفها وتتحول بها ومعها إلى موطن إنساني وكوني ينثني على مجموعة أنماط وخلفيات سياسية واجتماعية ونفسية وحضارية.
لماذا تتحيز مفهومية الثقافة لكل ما هو شمولي. في قصديتها لقراءة العولمة، وفي تبديلاتها للفروق الشاسعة والمناورة التي تضعها الثقافات المعولمة، على إيقاع “السلطة السياسية ” “ومنظومات العولمة الأخرى والموازية” أو ما يطلق عليها أحيانا ب” العولميات الدولية”؟.
إنه كثيرا ما يثار مشكل التعريف السوسيولوجي ل”العولمة الثقافية”، هل تحدده “عملية توحيد السلع الثقافية المستهلكة في “القرية العالمية”، أم التأسيسات المرجعية الموحدة لتلك السلع المنظورة الخاصة ب “التعبيرات الثقافة ، والتنوع الثقافي ، والخصوصية الثقافية ، والتعددية الثقافية”.؟. بالإضافة إلى ما يمكن تعميمه حول ما تولد عن هذه المفاهيم ، مثل الجغرافيا السياسية أو الحكم”” أو “الثقافة المفرطة”.
يستبصر الباحثان الفرنسيان جان تارديف وجويل فارشي في كتابهما المشترك “تحديات العولمة الثقافية”، الصادر بباريس عام 2006، أشكال تنظيم التقابلات بين الثقافة والعولمة، من منطلق طرح أسئلة محورية، حول ماهية المساحات الجيوسياسية الجديدة الناتجة عن العولمة، في ضوء الديناميكيات العالمية الراهنة، وكيف تتطور الثقافات المختلفة واستراتيجيات مقاومة الهيمنة الثقافية، مع تسليط الأضواء حول تداعيات تكثيف التبادلات الدولية ومخاطر التجانس الثقافي؟؟.
ويرى الباحثان، أننا بإزاء هذه الأطاريح المتشعبة، لازلنا نتعامل مع العولمة الثقافية من منظور شبه نقدي أو شبه بناء ، مشككين في الآن ذاته، فيما إذا كنا نواجه شكلاً استطراديًا جديدًا ، مثيرين أشكالا من المذهبيات الشائعة، المرتبطة بالأمركة والتسليع والإمبريالية.
وكيفما كان الأمر ، فإن التعامل مع موضوعات “الأمة والهوية الوطنية والسيادة “باعتبارها بنايات رمزية للخيالات الإبداعية أو اليوتوبيا، هو ما يفرض، حسب جان تارديف وجويل فارشي، وضع السياقات المتداولة، ضمن خصوصياتها المرجعية والثقافية، بعد ظهور ما يسميانه ب” الاضطرابات الناجمة عن ظهور تقنيات المعلومات والاتصالات”، ما يفرض بالتالي، إعادة تعريف مفاهيم “المسافة والقرب” ، وفهم خصوصيات الفضاء الإعلامي والثقافي المعولم، داخل حيز رمزي يطلقان عليه “القارة السادسة”.
ووفق هذا المجال، يعتبر الكاتبان أن التجانس بين الثقافة والعولمة ، لا يزال سطحيًا بشكل نسبي، بل إنه يمثل خطرًا أقل بكثير من التهميش الخبيث للمساحات الجغرافية الثقافية الأخرى.
ومع أن انفتاح العولمة على عالم الثقافات سيظل عائقا في القابليات الفكرية والثقافية ، وشكلا من أشكال الترويج والاستلاب والبروبجندا المضادة، إلا أن اللامركزية الموصوفة بها ستبقى أمرًا ممكنًا. وهو ما يلتقي مع نظرائهما في التنظيم لهذا التمايز الخفي والظاهر، خصوصا لدى جيرار لوكلير في كتابه (العولمة الثقافية)، وأرماند ماتيلارت في كتابه (التنوع الثقافي)، أو حتى المفكر الأمريكي صامويل هنتغتون في كاتبه (صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي).
فهل تشيح أشكال فرض عولميات ثقافية مكرسة للهيمنة والتسلط ، عن مطالب التفرد بالخصوصية الثقافية، على الرغم من تغير أنماط الاستهلاك والممارسات الثقافية ، وصمود مناحي التنوع اللغوي والديني في المجتمعات المختلفة؟ أم أن العولمة الزاحفة ستفرز أنساقا وقطائع مهجنة، تسمح بالنفاذ السلس للأشخاص والبضائع والأفكار ، بما يؤمل لإشاعة قاموس “توحيد الثقافات” و”حوار الأديان” وما إلى ذلك؟، وهو المظهر السياسي الثقافي الجديد لخلاصة ما تقيم عليه الحضارة الغربية، مقولاتها المغرية لتبني نظرية التحويل الحداثي والنظام الثقافي الواعد ، وتحرير العقل واستحضار روح العصر. وهو المطمح الذي تتأسس عليه كل نظرات الغرب تجاه المحيط الإقليمي والدولي، ويمكن التمثيل هنا بأطروحات فرانتس فانون وإيمي سيزير وجان فيليب أوموتوند ، الذين يفككون مشكلات ما يسمونه ب”الاغتراب الثقافي للكاميت (السود)l’aliénation culturelle des Kamits (Noirs)؟، وما وراء فرض رؤية الغرب بإزاء ذلك، وبكل الوسائل، خصوصا فيما يخص مفهوم “الأنا الأفريقية”.وعن خلفيات وجذور “العدوان عليها وما وراء ذلك؟ .