(التفكير صعب، لذلك معظم الناس يطلقون الأحكام) ـ كارل يونج ـ
تشيح وضعيات ممارسة الإعلام والصحافة ببلادنا، عن فترة كمون متغافلة وانجراف متقصد نحو الجمود والتخمل، تشكلت بوضوح بعد سلسلة هزات عرفتها منظومة التقنين والمهننة، حيث عانى الصحفيون طيلة عقود من اختلالات متباينة في ترسيم حدود الاشتغال والممارسة، لم تثنها تدخلات السلطة، في تحييد طفرة الحرية والتعبير، عن ممكنات الاستيقاظ والتوهج، رغم النصوص القانونية والتشريعية المبادرة إلى تحصين الحقل من تداخلات السياسة ومثبطاتها الإدارية والتنميطية.
وخلال فترة حالكة من شجون هذا الافتقاد ، عاشت السلطة الرابعة مجبرة على التعايش مع وزارة الداخلية أيام ادريس البصري، مخلفة وراءها حجما غير يسير من الدمار التنظيمي والحقوقي لمجال ظل ملتبسا ومتحاملا عليه، وموصولا بقطائع مترادفة من التعنيف والتفكيك والتداخل الفاضح لأدنى مواصفات الاستقلالية والحياد والمصداقية.
وبعدها بقليل صار الصراع على الكراسي في بنية الصحافة المهلوكة المقسمة، من هوامش التنظيمات النقابية والمنظمات ذات الصلة، ومعها أبواق الساسة والأحزاب، (صار) مركزا للتفتيت المبرمج والانتقائية المتحاملة، وسوء توزيع البدائل، انطلاقا من تأسيس غابة النصوص المنظمة، التي أفرزت جدالات وسفسطائيات خارج المعنى، وانتهاء بتحويل الأفكار والمشاريع التنظيمية للممارسة الإعلامية، إلى ماخور لتغييب الأصوات الحرة والأقلام الأخلاقية ومواجهتها بكم هائل من الطبالين المتحذلقين المتحلقين حول أولياء النعم إياهم، وأرداف التفاهة والإسفاف، بعيدا عن بناء ميثاق الأخلاقيات وأبنيتها الواعية بالمرحلة ومستقبل المهنة.
سيكون من الغباء القفز على قطائع زمنية ومحامل عديدة استتبعتها في توتير وإتلاف أفق تعزيز حرية الصحافة ونهضتها، مادمنا نجرب هاهنا شكل ونظام أنساق التعاطي مع وضعيات سادرة أضحت تشكل مأزقا مجتمعيا ونفسيا، أخطر مما كنا نعتقد ، ونحن نحاول الإحاطة المقنعة بكل ملابسات إقرار مشروع قانون رقم 15.23 الذي يتعلق بإحداث لجنة مؤقتة لتسيير شؤون قطاع الصحافة والنشر، والهادف إلى إحداث لجنة مؤقتة تحل محل أجهزة المجلس الوطني للصحافة، تحدد مدة انتدابها في سنتين ابتداء من تاريخ تعيين أعضائها ما لم يتم انتخاب أعضاء جدد خلال هذه المدة.
إن مجرد الانخراط في نقاش من هذا النوع، سيحيل بالأساس والمنطق، إلى إعادة تدوير كل المعطيات والسياقات التي رافقت هذا المشروع الباطل والمخيف، انطلاقا من قراءته الأفقية التي تستوجب تعيين الفاعلين الأساسيين الذين كانوا يؤثرون فيه، مع الوقوف على أبعاده السياسية والتنظيمة، والإشكالات التي يطرحها على جميع المستويات، وانتهاء برؤى وتقاطعات المتشاحنين حوله، ومن تمة يمكن تكوين نظرة معقولة، حول أوجه اختلالاته وأشكال مواجهته ونقده.
لكنني هنا لست في موقع المدافع أو المعارض، أو السابح في ذرى فريق دون آخر، أو حتى متموقع ما بين بين، فهذه أنماط سلوكية تحتويها مغالط أخلاقية لا تحتذي بالفكر والعقل الصانع، ولا تجتبي مبصرا للشرف المهني والعفة النبيهة. إنما أعزز مطمعي في البحث عن ظلال أغنى مقاما وأطهر مقدما، حيث التدافع بالمنافسة الشريفة، والحوار الديمقراطي والحكمة، يوفران مراما هو أبلغ في الوحدة الوطنية وصورتها لدى المحيط والعالم.
ما معنى إذن أن نقطف الثمار المرة من أشجار مبتورة من جذور السقي والإنضاج؟ وما معنى أن نتخلف عن مدارسة الأشكال التي تم بواسطتها تنظيف محيط الشجرة وتنقيتها من طفيليات التربة وتشذيبها وتقليمها وإعدادها لمناكفة هفيف الشمس وبرادة الهواء؟.
إنها أبنية واعية بنظام الحياة واستمراريتها. فلا نفع من شجرة لا ثمار تنتجها، ولا وسم يبصم وجودها وكينونتها، دون ماء ورعاية ووقود. نفسها مدارة الصحافة، تحتاج لحركة انتقال ومجاسرة، وتدافع إيجابي بعد أرياح عاتية وفوضى أشعلت صدوعها تحولات الرقمنة وتكنولوجيا المعلومات؟.
يحتاج الضمير الصحفي الآن إلى وقفة تأمل ومراجعة، فتصحيح المسار تلزمه تعبئة الذات وليس إقامة المتارس وإعلان الحروب الشخصية.
فهناك من ينتظر الفرصة لمصادرة هامش الحوار، حتى عند أولئك الذين يؤمنون بسلطة المطلق، ذلك الشاحن الجاثم على أنفاسنا، يتعذر بفساد الوحدة وانتفاء الصوت المنسجم، وهو من كل قيم الخطاب بعيد وغافل حتى الثمالة؟