اختلف شعراء العربية وقراؤهم، منذ بواكير القرن الماضي في حد الشعر المتحرر من الأوزان والقوافي، بدءا بأمين الريحاني وجبران ورشيد أيوب وأمين معوض مشرق ومي زيادة ورفائيل بطي، والشابي في قصائده المنثورة، وقد نشر باكورتها زين العابدين السنوسي في مجلته «العالم الأدبي» 1930، وأنور شاؤول وخليل مطران وألبير أديب الذي سمى شعره «الشعر الرمزي المنثور» فأدونيس الذي وضع المصطلح «قصيدة النثر» 1958، وأنسي الحاج والماغوط وحسين مردان وحميد المطبعي وأمجد ناصر وسركون بولص وصلاح فائق… أما عيسى الناعوري فسماه «الشعر المنثور» وعد أمين الريحاني أول من كتبه (1905)؛ والريحاني في «الريحانيات» إنما سماه «الشعر الجديد» أو «الشعر الحر» وذكر «أنه آخر ما توصل إليه الارتقاء الشعري عند الإفرنج» وبالأخص عند الأمريكيين والإنكليز» ونوه بالأمريكي والت ويتمان في كتابه الشعري «أوراق العشب» فقد «أطلقه (الشعر) من قيود العروض، كالأوزان الاصطلاحية والأبحر العرفية». وهذا تقريبا ما يقوله جيمس ميللر، فـ»ويتمان هو أول شاعر في التاريخ، يستثمر إمكانات الشعر الحر إلى أقصى حدودها.. فالبيت الواحد الطويل في فيضه الحر؛ يجمع في حيزه روح الديمقراطية والحرية التي يتنفسها ويتمان في أشعاره» والحق أن المصطلحات التي أطلقت على هذا النوع من الكتابة الشعرية، قبل أن تستقر على «قصيدة النثر» مثل «الشعر الطلق» و»الشعر المرسل» و»الشعر المنسرح» و»النثر المشعور» و»في غير العمودي والحر»… كانت مرتبكة كأشد ما يكون الارتباك؛ وهي من ثمة تحفزنا إلى العودة إلى هذا النوع، والعودة عليه؛ لسبب وجيه قد لا يخفى وهو، أن الشعر فن لا يستقر على حال، والأشكال الشعرية متحولة أبدا؛ وقصيدة النثر العربية الجديدة تباغتنا باستمرار. ولا يكفي في حد هذا الخطاب القول إنه يتكون من كلمات، فالأصوب أنه مكون من كلمات يعلق بعضها ببعض في هيئات وصور مخصوصة. وهو ما يجعلني أترجم ترجمة المصطلح الشائع في الدراسات الحديثة «خطاب» بالنظم حينا وبالإيقاع حينا.
بل لا أجد أي ضرورة للفصل بين هذه المصطلحات الثلاثة، إلا أن يكون ذلك على سبيل الإجراء المنهجي لا غير. من ذلك هذه الظواهر اللافتة في «قصيدة النثر» العربية، وبعضها لغوي (صرفي) وبعضها بلاغي، وبعضها نحوي. ولو اقتصرنا في حدها على هذا الوصف لما أمكن أن نظفر بضالتنا منها في اكتناه إنشائية الخطاب وما أسميه «شعرية الحياة» في تجارب الشاعرات خاصة مثل، مرام المصري ولينا شدود في سوريا، ولمياء المقدم وأفراح الجبالي في تونس، وجيهان عمر في مصر، وهيفاء العيد في السعودية، وإكرام عبدي في المغرب وغيرهن… فهي نصوص مترابطة إيقاعيا بقوانين النظم، ودلاليا على أساس من قاعدة المجاورة. وكأن لا هدف للشاعرة منها سوى أن تكني باللغة عن اللغة. غير أنني لا أحب أن أسارع فأقرر أن السيادة في هذا الشعر إنما هي للكناية، وليست للاستعارة؛ حتى إن وقع في الظن أن المجاورة هي القاعدة التي تجري عليه خطة الكتابة عندهن، أو أغرتنا بعض الظواهر الأسلوبية في شعرهن بهذا الطرح. ولعل ما يؤكد ذلك اطراد المماثلات والمحاكيات، التي تحيل على مطابقات ذات طبيعة استعارية، حيث ماهية الشيء من ماهية شبيهه؛ فبدل أن تقوله الشاعرة تقول ما يشبهه. وهذه المطابقات ليست استعارية بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما هي تعبيرات شبه استعارية، إذ هي لا تمثل في أي حال نقل المعنى نقلا اختياريا أو مقصودا، كما هو الشأن في الاستعارة الشعرية.
وهذه الظاهرة قد يكون مصدرها الشفهية، حيث يمكن أن نستبدل المجردات بالمحسوسات مثل التعبير عن الأشكال الهندسية من مربعات ودوائر.. وهي مجردات بأسماء أشياء؛ كأن تسمى الدائرة طبقا أو قمرا… ما يدل على مرونة في استخدام الدوال والتلاعب بالمسميات، من غير أن ينتقض نسيج النص، ومن غير أن يتفكك.
من المفيد ألا نحصر هذين القطبين الاستعاري والكنائي في الصورة «الغامضة» أو «المبهمة» أو «المستغلقة» وهو ما يجرى عليه المعاصرون من أنصار «الفهم» و«الوضوح» المعترضون على هذا النمط من الكتابة.
لذلك يكون من المفيد ألا نحصر هذين القطبين الاستعاري والكنائي في الصورة «الغامضة» أو «المبهمة» أو «المستغلقة» وهو ما يجرى عليه المعاصرون من أنصار «الفهم» و«الوضوح» المعترضون على هذا النمط من الكتابة. والقراءة السائغة إنما هي التي تقف على الخطاب بكل مكوناته الإيقاعية والصرفية والنحوية، وما يتفاعل فيها من علائق المشابهة والمجاورة. فقد يتسنى لنا في ضوء قراءة كهذه أن نحيط بأهم سمات إنشائية الخطاب ودلالاتها، وما يتعلق منها بملكة الانتقاء والاستبدال، أو بملكة التركيب والنسيج، آخذين بالاعتبار جملة من «المصادرات» مما نقف عليه في الدراسات الحديثة التي تربط ما بين اللسانيات والإنشائية. فقد خلص أصحابها إلى أن اضطراب ملكة الانتقاء، ينجم عنه عطب، أو فساد في مستوى اللغة الواصفة. أما إذا أصاب الاضطراب ملكة التركيب، فإن قدرة المحافظة على تسلسل الوحدات اللغوية وما يفترض فيها من تأليف أجزائها واتصال بعضها ببعض، هي التي تضعف؛ وقد تنضب جزئيا أو كليا. فلا غرابة في أن تنتقض علاقة المماثلة في النمط الأول، فتستحيل الاستعارة، وأن تنتقض علاقة المجاورة في النمط الثاني، فتستحيل الكناية.
صحيح أن هذا إنما جاء في سياق كلام المعاصرين على الحبسة، حيث يمكن أن يتدانى أحد الإجراءين الاستعاري والكنائي ويتقلص، وقد يتعطل كليا، وينزع المتكلم «المحبوس» إلى جهة دون أخرى. أما في منتحى القول العادي أو المألوف، فإن هذين الإجراءين كثيرا ما يتلازمان أو يتحاذيان، بسبب من تأثير الأنماط الثقافية أو الشخصية. وما بين شد هذا وجذب ذاك، يتكشف الأسلوب المميز والاختيارات اللغوية في فن مثل فن القول، خاصة حيث التفاعل بين هذين العنصرين يسم كل مستويات القول الصرفية والمعجمية والنحوية والتركيبية، بل الإيقاعية أيضا التي تتفاعل فيها علاقتا المشابهة والمجاورة. وقد تظهر إحداهما في مستوى بينما تخفى الأخرى. وكل هذا يوفر مادة غنية لدراسة الوزن والإيقاع، ويفتح للقراءة آفاقا جديدة.
فهذان العنصران (الوزن والإيقاع) محكومان في الشعر، بعلاقتي المشابهة والمجاورة. وإليهما يمكن أن ترجع قوانين مثل التوازن والتساوي والتلازم والتكرار، التي تعمل في الخطاب تمكنا ومزامنة. وهذا شعر غير موزون، ومع ذلك هو «موقع»؛ والخطاب الشعري إيقاع، والإيقاع خطاب. وإذا كان ذلك كذلك، فمن الصعوبة بمكان ألا نقر بـ«كنائيته» أو بـ«استعاريته». وقد أشار جاكوبسون إلى هيمنة التراكيب الاستعارية في الأناشيد الروسية الغنائية، وإلى اطراد الإجراء الكنائي في الملحمة. وتمثل بالكاتب الروسي Gleb Ivanovitch 1902 ـ1840 وقد عانى في آخر حياته من حبسة واضطراب في الكلام، ولم يعد بميسوره أن يزاوج بين اسمه ولقبه. وهذا في نظر ياكوبسون مثال على اضطراب المماثلة أو المشابهة، يفسر في جانب منه نزوع هذا الكاتب إلى التعبير الكنائي.
أما مكونات هذه الرؤية الإيقاعية في هذا النوع من «قصيدة النثر» عندنا، فتثير أكثر من إشكال؛ خاصة عند الذين لم يدركوا أن قصيدة النثر الأبقى، إنما هي التي يعرف صاحبها كيف يصلُ بين نصه ونص أسلافه من غير أن يحتذيهم أو يقلدهم. يقول جيمس ميللر الذي تمثلت به أعلاه: «وعلى أن شعر ويتمان يمثل تحررا شعريا من الماضي، فإنه يملك مع ذلك، في قبضته الحازمة كثيرا من التقاليد الشعرية. وإن نظرة على أي صفحة من «أوراق العشب» تكشف عن استخدام طرائق أساسية في الصياغة اللغوية مثل: السجع الجناس والتكرار والطباق والتشبيه، وغيرها. ومع أن ويتمان قد حرر نفسه من القافية الموزونة؛ فإن شعره يضج بالوزن المنبثق من ذاته، وله في الأذن جرس قوي، وإن أفلت من إدراك العين». وهذا وغيره مما أعود إليه في مقالات مقبلة من خلال شواهد وأمثلة دقيقة، لا سبيل إلى اكتناهه إلا في ضوء التناسب الإيقاعي، حيث الزمن عديم الشكل في قصيدة النثر ولا سبيل إلى أن نجلوه في مجلى الرؤية، إلا إذا أضفينا عليه صورة أو هيئة أو قيدناه بشكل؛ أي وقعناه. والمفارقة أن إدراك إيقاع زمني هو نفسه «لازمني» إذ يستلزم الإدراك نظرة متزامنة لأكثر من جزء. وهذا لا يتيسر إلا إذا وضعنا أنفسنا في موقع خارج الخطاب. وبعبارة أخرى فإن الزمن يدرك كلما أمكن توقيعه، فيما الإيقاع لا يدرك إلا إذا ألغي الزمن. على أن النص الشعري ليس منذورا لهذه المفارقة، إذ يمكن أن يستخدم زمنا لا شكل له، أو زمنا تخيليا يدرك بالبديهة والاستبصار، أي من غير استئناس بخبرة سابقة. وهذا الزمن أقرب ما يكون إلى زمن ديني يقوم على نبوءات وحدوس، وهو موقع منغم؛ لأن «الأمر عند الإنسان يتعلق دائما بتأنيس الزمن في المتخيل وسحره» ما يحمل على أنه ضرب من «مورفولوجية الغيبي» وعلى «شعرية الحياة» معا.
*كاتب وشاعر تونسي