سعيد المرابط :
يحدث أحيانًا مع الكتبة أن تأتي مفردات النص مترادفةً مع أردافٍ إيروتيكيةٍ تخلخل اليقينيات الضيقة دون موعد ودون سابق انذار!.. ويحدث كذلك أن يتمرد نص أدبي على هشاشة القارىء؛ فيستحيل من أبجديةً لطيفةً إلى خطاطيف جارحة؛ ولعمري ذلك هو النص!.. ما حدث لرواية فاطمة الزهراء أمزكار، “مذكرات مثلية”، جميل من الناحية الاشهارية، مثمر من الناحية المادية؛ لدار النشر، فهي الرابح الأكبر في هذا؛ “رب ضارة نافعة!”..
أما من الناحية الأدبية فقد حُمّل النص الكثير من التأويلات، فكانت الدفعة السحرية التي مارسها المنع على الرواية، فعل وصاية ممنهج، بشكل أو بآخر، من طرف الجمهور (لا أقول القراء لأن السواد الأعظم لم يقرأ النص)؛ جمهور ينقسم إلى فسطاطينِ؛ بعضهم يمثل حراس النوايا، دخل إلى النقاش يتأبط سيفه لقطع رقبة النص قربانا للمقدس الذي دنس حبريًا حسب رأيه، وذلك جهاد حراس معبد الفضيلة في حربهم المقدسة “ضد المنكر”.. وآخرون يفتشون عما يخدش الحياء في ثنايا الحكاية، علهم يجدون حجة يصلبون بها النص على مقصلةٍ قروسطية بعد عقدهم لمحاكم التفتيش؛ لتضيع في المحصلة الحمولة السيمانتيكية للمكتوب على حساب الكاتب في جدال تأويلي متأزم، لا يسبر أغوار النص ولا ينتقده من خلال آليات الكتابة السردية، كما يفتح أفق نقاشٍ حقيقي؛ بقدر ما يمارس الطمس على نصٍ سلط بقعة الضوء على فئة موجودة حقًا، تعيش بيننا بشكلٍ مرئي، وبكل ألوانها القزحية!..
هولاء الذين يريدون طمس الكتاب؛ متناسين قدرة الكتبة على تقمص الشخصيات في مطبخ كتابتهم، وتقطيع أغلال ذواتهم عن أبجدياتهم؛ بذات الطريقة التي يضيع بها، وجه “نجيب محفوظ” للباحث عنه في ثنايا ثلاثيته المذهلة، بين خلاعة “ياسين” الشهواني الماجن، وأصولية شباب “الإخوان المسلمين” كـ”عبد المنعم”؛ يريدون لهذا الجيل من الكتاب أن يظل هناك في زمن السيف الدمشقي، محجوز في الكتب الصفراء، يجتر أتربة المجد التليد المنبعثة من خيم القبيلة وبكائياتها… رافضين تقبل أنه جيل آخر متمرد على الوصاية؛ يبني أدبه على أنقاض الماضي الذي لن يعود؛ ينطلقون مغادرين ضيق الجغرافيا ومحن ثقافتها المعطوبة متكئين على أجنحتهم الخاصة التي يطيرون بها، نحو فضاء الحياة التي تشبه الحياة…
إنهم يبدعون حروفهم في الوقت الراهن الذي يعيشونه؛ المرهون بهم والمرهونون به؛ لأنهم ببساطة يحاولون أن يجدوا نصوصًا معبرة عن تيمات يعيشونها داخل مجتمعهم هم؛ بعيدًا عن الأجيال السابقة لهم، وبعيد عما تطلبه الذائقة “الغوغائية”!..الرواية كيفما كانت، تبقى رواية، سواءٌ جاءت منقبةً؛ هيفاء مقبلة، أو مشت سافرةً؛ عجزاء مدبرة، تهز أرداف دفتيها بغنج لا متناهي، تبقى رواية!..تبقى مرآة تنعكس فيها حيوات المجتمع، ترتدي جلده وألوانه، ومضمخٌ هو حبرها بدمه، عرقه، طمثه ومخاطه؛ فدعوا شخص الكاتبة وشأنه، فهي لم تمارس إلا فعل الكتابة المقدس، والروائي “جاسوس المجتمع” يكتب بمشرط الجراح لا بفرشات التجميل، كما أنها لم تتقمص دور الداعية، ولم تخرج إلى الملأ نبيةً تتلوا نصها علنا، ولم تقل لكم “تعالوا إلى مثليةٍ سواء بيني وبينكم”..
النقاش الذي يجب يكون بعيدًا عن زوبعة الأصولية في فنجان الأدب؛ يجب أن يولد من رحم النص، يخرج صريحًا وفي قماطه كل الشرعية الأدبية، هو تطبيق نظرية “رولان بارت”؛ “موت المؤلف”؛ ومساءلة النص فقط عن المبنى والمعنى، لا عن صوت صرير السرير الذي وسوس خشوع فضيلتهم، وروائح التبابين التي غطت بخور معابدهم!.. فالكتابة فعل ثورةٍ حبرية، نقع مدادها قعر دواة منفجر وجه التابو والتوتم.. والكاتب المستكين لإستئسادات القارئ المتعجرفة، والمليئة حد الإغتمام بتأويلاته المعشقة بمشاربه التي لا تتبرأ من جهل، ليس سوى نسخة كربونية لكاتب عمومي يحسب دقائق عمره على ملمس الآلة الكاتبة..